بادرت الآيات من أول القصة إلى نزع هذا العائق فكان المناسب أن يكون الحديث عن النفس الشافعة، وبيان حالها لهؤلاء القوم حتى لا يبقى في نفوسهم أي تعلق بها، فقدم ذكر الشفاعة نافيًا قبولها من الشافع، ثم ثنى بذكر العدل ونفى فائدته بلفظ الأخذ، وهو لفظ أعم من نفي القبول حتى يشمل العدل الذي قد تقدمه النفس الشافعة من مالها أو من مال المشفوع له بين يدي شفاعتها فيما لو ردت شفاعتها.
وأما الآية الثانية فجاءت آخر آية في القصة، وقد سبقها آيات كثيرة تبين فضائح اليهود، وشدة عصيانهم، وقد يكون بين أول القصة وآخرها زمن طويل لم يستجب فيه اليهود فكان أن تغير الخطاب لهم، وذلك أننا نجد في آخر القصة أن الخطاب قد توجه للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم الاكتراث بهم، وبأن هؤلاء اليهود لن يرضوا عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، وحذره من اتباعهم، وفي هذا إظهار العزة وعدم الاكتراث بهم ما فيه، ثم بين أن من أوتي التوراة حقًا هو من يتبعها، ومن اتبعها لابد أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم لما فيها من الأمر باتباعه، وهؤلاء هم المؤمنون بالتوراة، ومن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن بالتوراة وأولئك هم الخاسرون، وبهذا فإن الآيات في آخر القصة تنزع من هؤلاء اليهود شرفهم الذي يحاولون الانتساب إليه وهو التوراة، مبينةً أن من لم يؤمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا حظ له بهذا الكتاب، ولهذا أعقب ذلك سبحانه بإعادة تذكيرهم بما من الله به عليهم من النعم ومن التفضيل الذي لا تحصل حقيقته إلا بالإيمان الذي قد تبين لهم شأنه.
وبعد ذلك تأتي الآية محل البحث، وهي تأتي وقد انكشف للقوم حقيقة أنفسهم، ولهذا كان الحديث عنهم هم عن النفس الثانية المجرمة المجزي عنها، وبأنها لن يقبل منها يوم القيامة الفداء؛ لأنهم لم يبق لهم بعد تعلق بالآباء، بل كأن هذه النفس قد عرفت جرمها فهي تريد الفداء بمالها، ولو كان شاقًا على هذه النفس اليهودية الجشعة، وفي هذا من التيئيس لهم وإقامة الحجة ما فيه، فكان البدء بنفي العدل هو المناسب وبلفظ القبول؛ لأنها تقدمه عن نفسها من مالها، ثم عقب بنفي نفع الشفاعة ولم يعبر بالقبول، والسر في ذلك والله أعلم هو شدة التيئيس لهم أيضًا حتى يعلموا أن لا سبيل للخلاص إلا بهذا الدين، وذلك أن في نفي نفع الشفاعة ثبوت أصل