لِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ هَذَا النَّقْدِ وَهَذَا النَّقْدِ، أَوْ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، أَوْ بَيْنَ ابْتِيَاعِ هَذَا الصِّنْفِ وَهَذَا الصِّنْفِ، أَوِ الْبَيْعِ فِي هَذَا السُّوقِ وَهَذَا السُّوقِ، فَهُوَ تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ وَاجْتِهَادٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا يَرَاهُ أَصْلَحَ لِمَنِ ائْتَمَنَهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ تُسَوِّغُ لَهُ تَرْكَهُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَصَرُّفُ وَلِيِّ الْأَمْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، كَالْأَسِيرِ الَّذِي يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَلِهَذَا «اسْتَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فِيهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى، وَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْقَتْلِ، وَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنُوحٍ وَمُوسَى، وَلَمْ يَعِبْ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ، بَلْ مَدَحَهُ وَشَبَّهَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ» (١) . وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ حَتْمًا لَمَا اسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ.
وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِيمَنْ يُوَلِّي، فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَصْلَحَ مَنْ يَرَاهُ، ثُمَّ إِنَّ الِاجْتِهَادَ يَخْتَلِفُ وَيَكُونُ جَمِيعُهُ صَوَابًا، كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ رَأْيُهُ أَنْ يُوَلِّيَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي حُرُوبِهِ، وَكَانَ عُمَرُ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْزِلَهُ، فَلَا يَعْزِلُهُ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ لَمَّا تَوَلَّى عَزَلَهُ وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَمَا فَعَلَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا كَانَ أَصْلَحَ فِي وَقْتِهِ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ فِيهِ لِينٌ، وَعُمَرَ كَانَ فِيهِ
(١) انْظُرْ نَصَّ الْحَدِيثِ وَتَعْلِيقِي عَلَيْهِ بَعْدَ صَفَحَاتٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ ص ١٣١ - ١٣٥
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute