قلت: وعلى هذه القاعدة من التطور الحضاري وتأثيره في تكييف طرائق التعاقد بين الناس عادت الوحدة الزمانية لتصبح من جديد أساسًا فعالا في وحدة العقد ذلك بأن (إلغاء المسافة) بوسائل التواصل المستحدثة جعلت من الممكن بل من الأيسر عمليًّا أن يتعاقد أثنان أو أكثر في لحظة واحدة مهما تباعدت مواقعهما، فوسائل الاتصال السلكي واللاسلكي أعادت للوحدة الزمانية موقعها وتأثيرها في التعاقد بين الناس ولا عبرة بالثواني أو الدقائق التي تفصل بين الرسائل والأخرى عند استعمال وسائل الاتصال الكتابي لا سلكيًّا فهي لا تختلف في شيء عن تلك الثواني أو الدقائق التي يستغرقها ويستلزمها التفاوض بين اثنين أو أكثر على الثمن أو على نوع البضاعة أو على طرق تسليمها أو موعده أو ما إلى ذلك مما هو ضروري لضبط قواعد التعامل في السلع الكبرى والعقارات وما إليها ما لا سبيل إلى تصوُّر تناوله في مجلس العقد.
وإذا اعتبرنا الوحدة المكانية يمكن أن تشمل لزوم كل من المتعاقِدَيْنِ أو المتعاقِدِينَ مكانه حال التعاقد لا يَرِيمُه حتى يتم العقد وإن كانت بينهما أو بينهم مسافة أو مسافات فاصلة على أن الأصل في اعتبار الوحدة المكانية هي عدم الانتقال الذي يقضي على الوحدة الزمانية فإن وسائل الاتصال الحديثة أعادت أيضًا لهذه الوحدة موقعها وتأثيرها في تكييف العقود ولا عبرة باحتمال أن ينهض أحد المتعاقدين من كرسيه ليأخذ ملفًا في خزانة بجانبه أو بطاقة من درج بدافع الحاجة إلى مراجعة بعض المواصفات أو العناصر التي يترتب عليها التعاقد إذ إن مثل هذا التحرك يمكن أن يحدث في مجلس العقد بين متواجهين في مكان واحد وما من أحد يمكن أن يقول أنه يعتبر تفرقًا – حتى على مذهب الشافعي – يلغي الوحدة المكانية أو الوحدة الزمانية.
ومن هذا يتضح أن (خيار المجلس) – على اختلافهم في تصوره وضبط مقتضياته – لا يختلف في التشريع الإسلامي عما كان عليه العمل في التشريع الوضعي لدى الشعوب غير الإسلامية السابقة إلى الانضباط بالشرائع الوضعية في تعاملها، وهذا دليل آخر على ما سبق أن أوضحناه من أن التشريع الإسلامي لم يأت بالتغيير في جل المعاملات البشرية وإنما جاء بتنظيمها وضبطها وإقرارها على قواعد أوفر عدالة وأحق إنصافًا.
ثم قال السنهوري في [الوسيط: ١/١٣٧، فقرة ٣٦] :
يميز بعض الفقهاء بين الاتفاق والعقد، فالاتفاق (CONVENTION) هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله، أو إنهائه. فالاتفاق على إنشاء التزام، مثله عقد البيع البيع، ينشئ التزامات في جانب كل من البائع والمشتري. والاتفاق على نقل التزام،مثله الحوالة , تنقل الحق أو الدين من دائن لدائن آخر أو من مدين لمدين آخر. والاتفاق على تعديل التزام , مثله الاتفاق على اقتران أجل بالالتزام أو إضافة شرط له. والاتفاق على إنهاء التزام، مثله الوفاء ينتهي به الدين.
والعقد (CONTRA) أخص من الاتفاق فهو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو على نقله، ومن ذلك يتضح أن كل عقد يكون اتفاقا. أما الاتفاق فلا يكون عقدًا إلا إذا كان منشئًا لالتزام أو ناقلا له، فإذا كان يعدِّل الالتزام أو ينهيه فهو ليس بعقد.