للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أضاف الجصاص توضيحًا وتنويرًا لرأيه فقال: "ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسًا بالثمن ما دام في يد البائع؟ فإن هو سلمه إلى المشتري سقط حقه، وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه" (١) بالإِضافة إلى قياسه على الهبة، لأنه عقد تبرع في الحال (٢) .

واستدل الرأي الثاني بأن الإِيجاب والقبول يكفيان، إذ هما شطرا العقد وركناه الأساسيان، وإذا تما فقد انعقد الرهن ولزم لقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية ١] . ثم حينما ينعقد العقد يجبر الراهن على تسليم الرهن، حاله في ذلك حال بقية العقود التي تترتب عليها الآثار، فالبيع مثلًا يلزم بالإِيجاب والقبول، ثم يترتب عليه أثر من انتقال الملكية وتسليم الثمن والمثمن، وإذا امتنع العاقد عن تنفيذ ذلك فإنه يجبر عليه قضاء.

واستدل الرأي الثالث بالآية السابقة نفسها: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} حيث وصف الله تعالى الرهان بكونها مقبوضة، ومن هنا لا يجوز أن يلغي هذا الوصف بل لا بد من اعتباره شرطًا وليس ركنًا.

إذن فأصحاب هذا الرأي يحتاجون إلى الاستدلال على أمرين: الأمر الأول كونه شرطًا، والأمر الثاني: كونه ليس بركن.

أما الأمر الأول فيدل عليه وصف الله تعالى الرهان بأنها مقبوضة قال الكاساني: "وصف سبحانه وتعالى الرهن بكونه مقبوضًا فيقتضي أن يكون القبض فيه شرطًا صيانةً لخبره تعالى عن الخلف، ولأنه عقد تبرع للحال فلا يفيد الحكم بنفسه كسائر التبرعات" (٣) .

وأما الأمر الثاني فيدل عليه أنه لو كان ركنًا لما كان هناك حاجة لذكر: "مقبوضة"، قال الكاساني: "ولو كان القبض ركنًا لصادر مذكورًا بذكر الرهن، فلم يكن لقوله تعالى عز شأنه: "مقبوضة" معنى، فدل ذكر القبض مقرونًا بذكر الرهن على أنه شرط وليس بركن" (٤) ، وقاس ابن قدامة الرهن في ذلك على القرض حيث إنه لا يلزم إقباضه، ولا يجبر عليه بمجرد العقد (٥) .

وأما الرأي الرابع فقد استند على التفرقة بين المنقول وغيره، حيث إن التوثقة في المنقول لا تتم إلا من خلال القبض على عكس العقار.

المناقشة والترجيح:

ويمكن أن يناقش القول الرابع بأن الآية الكريمة عامة في المنقول وغيره، ولم يرد في السنة الثابتة على تخصيصها بالمنقول، فعلى هذا فتخصيصها تحكم وترجيح بلا مرجح.

هذا من جانب، ومن جانب آخر أن العلامة ابن قدامة قد أوضح أن هذه التفرقة في المذهب الحنبلي غير صحيحة، بل المروي عن أحمد روايتان مطلقتان بخصوص لزوم الرهن بالعقد وحده أم مع القبض، وكذلك كلام الخرقي محمول على ذلك، لكن القاضي أبا يعلى حمل كلام الخرقي مع عمومه على الفرق بين المكيل والموزون، وبين غيرهما، حيث قال: " ... وليس بصحيح، فإن كلام الخرقي مع عمومه قد أتبعه بما يدل على إرادة التعميم ..." (٦) .

بالإِضافة إلى أن هذه التفرقة التي ذكرها أصحاب هذا الرأي تعود في الواقع إلى طبيعة القبض في المنقول والعقار مع أن الخلاف في القبض مطلقًا هل هو شرط أم لا؟

ولذلك فهذا الرأي في الواقع ليس له دليل ينهض حجة، ولا مستند له وجاهته واعتباره.

ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الأول بأن الآية وإن كانت قد وصفت الرهان بكونها مقبوضة لكنها لا تدل على جعل هذا الوصف ركنًا للرهن، بل لو كان القبض ركنًا له لكان جزءًا من ماهيته وحينئذ لما احتاج إلى الذكر، كما لا يحتاج لفظ البيع أن يوصف بالإِيجاب والقبول، ومن هنا فلا تدل الآية على أكثر من كون القبض مطلوبًا، وهذا يتحقق بجعل القبض شرطًا للزوم – كما هو رأي الجمهور – أو شرطًا للتمام ولكنه يجبر عليه – كما هو رأي المالكية -.


(١) أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر، بيروت: ١/٥٢٣.
(٢) بدائع الصنائع: ٨/٣٧٢٠.
(٣) بدائع الصنائع: ٨/٣٧٢١.
(٤) بدائع الصنائع: ٨/٣٧٢١.
(٥) المغني: ٤/٣٦٤.
(٦) المغني: ٤/٣٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>