للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفى الحديث: ((ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) وقال أيضًا ((لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه)) ، وقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) فللجار على جارة حقوق أخلاقية كثيرة كأمانته ونصرته في الحق وإقراضه وعيادته إذا مرض وإعارته الماعون، وله حقوق تتعلق بجوار الحدود فلا يضر به ضررًا فاحشًا كبناء جدار يحجب الضوء عنه ويمنع عنه الهواء أو يسد عليه النوافذ أو يحدث مصنعًا مزعجًا بآلاته وسط المنازل أو يهدم السور الذي بينهما. وقد ذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد إلى عدم تقيد المالك في انتفاعه بملكه لأجل مصلحة جاره لأن مقتضى الملك التام أن ينتفع المالك بملكه على الوجه الذي يريده وخالفهم مالك رحمه الله ومعه متأخرو الحنفية، فمنعوا الجار أن يتصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره ضررا فاحشا، والمعتمد في ذلك حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولأن ما تعارف عليه الناس هو عدم تجاوز الملك المعتاد في التصرف وتحديد الضرر الفاحش من غير الفاحش مبناه عرف الناس، وإنا لندرك مما مر أن هذه الحقوق كلها تعتمد في الكثير من أحكامها على العرف أكان خاصًّا أو عامًا، قوليًّا أو فعليًّا، كما ندرك أن الشريعة الغراء اعتنت بمعتاد الناس فيما لا يخالف مقاصد الشريعة ويحقق المصالح ويدرأ المفاسد ويجلب التيسير ويرفع الحرج.

العقود التي بني الجواز عليها فيها على العرف: كثير من العقود شرعت على خلاف القياس وذلك دفعا للحرج وتسهيلا على الناس في معاشهم ومعاملاتهم، وقد سماها بعضهم ببيوع الاستحسان وهي العقود التي أبيحت للضرورة لتعارف الناس بها في معاملاتهم السلم والاستصناع وبيع الوفاء وعقد الإجارة والمزارعة والمساقاة، فبيع السلم الذي يتضمن تعجيل أحد الثمنين وتأجيل الآخر وهو عقد على خلاف القياس إذ هو بيع ما ليس عنده، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم لما وجد الناس يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث فقال: ((من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) ، وقد بني الجواز على ما تعارفه الناس وأحكام السلم التي استنبطها المجتهدون بني كثير منها على العرف، وقد اختلف في ألفاظه وفي شروطه وفي ضوابط ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز مما يطول الكلام عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>