للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا يثور تساؤل آخر وهو:

هل يمكن أن يعتبر تمليك العين في نهاية المدة (في هذه الصورة) هبة للشخص الذي أدى الأقساط الإيجارية المحددة خلال المدة المتفق عليها؟

قد أورد الفقهاء في باب الهبة: (هبة الثواب) . وأجازوها ولكنهم أعطوها حكم البيع:

ومن أقوالهم ما أورده الحطاب (١) حيث قال: إذا قال (وإن أعطيتني ... دارك ... فقد التزمت لك بكذا، أو فلك علي كذا ... فهذا من باب هبة الثواب، وقد صرحوا بأنه إذا سمى فيها الثواب أنها جائزة، ولم يوجد في ذلك خلافًا، وأنها حينئذٍ بيع من البيوع، فيشترط في كل من الملتزم به والملتزم عليه ما يشترط في الثمن والمثمون من انتفاء الجهل والغرر – إلا ما يجوز في هبة الثواب- ويشترط فيه أيضًا كون كل منهما طاهرًا منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه ... وأن يكون كل من الملتزم والملتزم له مميزًا، ويشترط في لزوم ذلك أن يكون طائعًا رشيدًا) .

ومثله ما أورده الموصلي (٢) والهبة بشرط العوض يراعى فيها حكم الهبة قبل القبض، فلا يصح المشاع، وحكم البيع بعده، رعاية للفظ والمعنى، (... ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو حكم الحاكم ...) .

ومثله أورده الشربيني (٣) حيث قال: (ولو وهب شخصًا شيئًا بثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا، فالأظهر صحة هذا العقد، نظرًا للمعنى، فإنه معاوضة بمال معلوم، فصح كما لو قال بعتك - والثاني بطلانه نظرًا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضي التبرع- ويكون بيع على الصحيح نظرًا إلى المعنى، فعلى هذا تثبت فيه أحكام البيع ...) .

ومثله أورده البهوتي (٤) حيث قال: (وإن شرط العاقد في الهبة عوضًا معلومًا، فهي بيع لأنه تمليك بعوض معلوم ... فتثبت أحكامه ...) .

وهنا يثور تساؤل آخر: هو هل يجوز أن يجعل عقد الهبة معلقًا على شرط هو سداد جميع الأقساط التي اتفق على دفعها خلال هذه المدة؟

أي أن تكون الهبة معلقة على شرط هو (سداد جميع الأقساط الإيجارية خلال المدة المحددة، وعدم الإخلال بما اشترط عليه فيها) وتكون الصيغة هي "إذا سددت إلى الأقساط المتفق عليها خلال هذه المدة (المتفق عليها) وهبتك هذه السلعة وقبل الطرف الآخر" فيكون عقد الهبة عقدًا معلقًا على شرط، يجري عليه ما يجري على العقود المعلقة على شرط في الفقه الإسلامي.

وللإجابة على ذلك أقول: إن تعليق الهبة على شرط في الفقه الإسلامي اختلف فيه الفقهاء إلى رأيين:

الرأي الأول (٥) يرى عدم صحة تعليقها على الشرط (وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية) .

وذلك لأن عقود التمليكات تثبت آثارها في الحال، فتعليقها على الشرط ينافي ما يقتضيه العقد، فلا يصح لما فيه من معنى القمار، والهبة عقد من هذه العقود، إذ هي تقتضي التمليك في الحال، ولم تبنِ على التغلب والسراية، والتعليق ينافي هذا، لأنه يعلق التمليك على حدوث أمر محتمل الوقوع في المستقبل، فالأمر المعلق عليه قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا ينافي كون هذه العقود تقتضي التمليك في الحال فضلًا عما يترتب عليه من غرر.

الرأي الثاني: يرى جواز تعليقها على الشرط، (وهو قول في مذهب الحنفية) أجاز تعليقها على الشرط الملائم أو المتعارف، وهو رأي المالكية (٦) ، والظاهر في مذهب الإباضية.

وقد رجحت في (نظرية الشرط) هذا الرأي لما يأتي:

١- أن المتبرع متفضل، والمتفضل يقبل تبرعه على الصورة التي أرادها ما دام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا لقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [الآية ٩١ من سورة التوبة] .

٢- أنه روي عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: ((لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت للنجاشي حلة، وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن ردت عليَّ فهي لكِ، قالت: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة)) رواه أحمد ... وهو حديث لا يقل مرتبة عن الحسن، لأن رجاله رجال الصحيح ,وقد علم من بعض روايات الحديث ما يفيد أن الذي علق رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه لأم سلمة هو الحلة، وقد أعطاها لها حينما تحقق الشرط، وهو رد الهدية بعد موت النجاشي (٧) .

وأيضًا يثور تساءل آخر وأخير، وهو هل يجوز أن يعد المؤجر المستأجر بأن يهبه السلعة في نهاية المدة التي حددت لعقد الإجارة، وبعد سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها خلال هذه المدة؟


(١) الالتزامات، للحطاب: ص ٢١١.
(٢) الاختيار، للموصلي: ٢/١١٦.
(٣) مغني المحتاج: ٢/٤٠٤.
(٤) الروض المربع: ص٢٤١.
(٥) مغني المحتاج: ٢/٣٦٩؛ كشاف القناع: ٢/٢٧٤؛ التاج المذهب: ٢/٣٠
(٦) الالتزامات، للحطاب: ١/١٨٠؛ وشرح النيل: ٦/١٠؛ يراجع نظرية الشرط في الفقه الإسلامي: ص١٣٥.
(٧) تحقيق ذلك والإفاضة فيه مبين بـ (نظرية الشرط) للمؤلف.

<<  <  ج: ص:  >  >>