للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثا: موقف الفقه الإسلامي من الحقوق المعنوية:

أما الأمر في الفقه الإسلامي فيختلف، ذلك أن دائرة الملك في الشريعة أوسع منها في القانون، فلا تشترط الشريعة أن يكون محل الملك شيئا ماديا معينا بذاته في الوجود الخارجي، إنما هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع على الراجح من أقوال الفقهاء، والذي معياره أن يكون له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعا وهو ما تقرر وفق اصطلاح جمهور الفقهاء كما سنرى.

وعلى ذلك ... فمحل الحق المعنوي والذي سماه القانون بالشيء غير المادي، داخل في مسمى المال في الشريعة، ذلك أن له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعا ... بحسب طبيعته، فإذا قام الاختصاص به تكون حقيقة الملك قد وجدت (١) .

كما أن الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي، ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك، إنما معناه أن يختص به دون غيره ... فلا يعترضه في التصرف فيه أحد. والتصرف يكون في الأِشياء حسب طبيعتها، لذلك يختلف مدى التصرف في أنواع الملك في الشريعة من نوع إلى أخر.

والشريعة، أيضا، لا تشترط التأبيد لتحقق معنى الملك ... بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلا، تقتضي أن يكون مؤقتا ... كما في ملك منفعة العين المستأجرة، وملك منفعة العين الموصى بمنفعتها دون رقبتها (٢) .

فإذا كان لا بد أن يتأقت الحق المعنوي بمدة معينة بحجة أن صاحب الحق المعنوي قد استفاد من جهد غيره، فهو ليس جهدا خالصا له، كما أن جهده ضروري لتقدم البشرية ورقيها، ومقتضى ذلك ألا يكون حقه حقا مؤبدا (٣) .... فإن هذا التأقيت لا يخرجه عن دائرة الملك في الشريعة.

ويبدو أن هذه الحقوق لم تقم في المجتمع الإسلامي رغم نشاط حركة التأليف – مثلا – فيه من القديم، لأن الإسلام يدعو إلى كل ما فيه نفع للأمة، بل إن ما لا تستغني عنه الأمة يعتبر من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعا بتركها، كما أن العلم، وخاصة العلم الشرعي، لا يحل كتمه ....فالتأليف مثلا كان عبارة عن شعور بالواجب ورغبة في الثواب والأجر، بل كان المؤلف يحرص على نشره بكافة الطرق، لأن في ذلك مزيدا من الأجر والثواب. وعليه لم تبرز فكرة استحقاق الشخص لما ينتجه من أشياء غير مادية. وإن كانوا حريصين على نسبة الآراء إلى أصحابها.

ولكن إذا تصرف الناس عن إنتاج ما هو نافع من الأشياء غير المادية، وأخذ بعض الناس يستغلون ما ينتجه غيرهم من هذه الأمور .... ما يؤدي إلى الإضرار بهم، ومن ثم امتناعهم عن إنتاج ونشر مثل هذه الأمور، فإنه يمكن أن توضع القواعد التي تكفل تنظيم هذا الأمر بالشكل الذي تتحقق به مصلحة الأمة.

ولما كانت الأشياء غير المادية تدخل في مسمى المال في الشريعة، لأن لها قيمة بين الناس ومباح الانتفاع بها شرعا، وقد قام الاختصاص بها، فعلى هذا الأساس يمكن أن تنظم باعتبارها نوعا من أنواع الملك.

وقد اهتم بعض القانونيين بالحقوق المعنوية في الشريعة، وحاولوا تلمس أسس حمايتها وتنظيمها فيها .... يقول الدكتور محمد صادق فهمي: " ونعتقد أن الروح التي تهيمن على التشريع الإسلامي تأبى إلا أن تعترف بحقوق المؤلفين، لأن التشريع يأبى على الشخص أن يضر بغيره، كما أن اغتيال مؤلف إن هو إلا سلوك إجرامي تأباه الشريعة الإسلامية، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) ما يكفي لحماية حقوق المؤلفين (٤) .

وواضح أن فيما عرضناه بيانا شافيا للأسس التي يمكن أن نعتمد عليها بسهولة لحماية هذه الحقوق وتنظيمها.

ولنزيد هذا الأمر إيضاحا لا بد من التعرف بإيجاز بحقيقة كل من المال والملك في الفقه الإسلامي.


(١) وهذا يدل على أن مسمى المال في الشريعة الإسلامية يسع الأشياء غير المادية التي ينتفع بها انتفاعا مشروعا، ذلك أن محل الملك في الحق المعنوي عند التدقيق ليس المنفعة، إنما هو شيء غير مادي تحصل منه منافع لصاحبه
(٢) إلا أنه قد يكون لملك المنفعة، في بعض أنواع الملك، شكل التأبيد، كما يظهر في حقوق الإرتفاق، فإن المنفعة تملك لمالك العقار المرتفق ما دام مالكا له
(٣) انظر الوسيط: ٨/٢٧٩-٢٨٠
(٤) القانون والعلوم السياسية، الحلقة الدراسية الأولى: ص ١٢

<<  <  ج: ص:  >  >>