التأويل السادس: وهو سادس التأويلات في الآية الكريمة، وآخرها، وهو رأي ابن جرير الطبري، حيث يقول بعد أن ذكر الآراء جميعها ممَّا يراه صواباً.
(والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله بقوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وسبيله طريقه الذي شرعه للعباد وأوضحه لهم، ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وذلك مثل، والعرب تقول للمستسلم للأمر: أعطي فلان بيديه، وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به: أعطي بيديه، فمعنى قوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : ولا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمته فتهلكوا.
والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداة فرض الله عليه في ماله، وذلك أن الله جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلماً، وبيديه للهلكة ملقياً، وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف ملق بيديه إلى التهلكة؛ لأن الله قد نهى عن ذلك فقال:{وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} ، وكذلك التارك غزو المشركين وجهادَهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه مضيع فرضاً ملق بيديه إلى التهلكة، فإذا كانت هذه المعاني كلها محتملها قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئاً دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة، وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه غير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما يستوجب بدخلونا فيه عذابه، غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي، كما حدثني المثنى قال حدثنا أبو صالح قال لنا معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: التهلكة عذاب الله، قال أبو جعفر: فيكون ذلك إعلاماً منه لهم بعد أمره إياهم بالنفقة ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله من العقوبة في المعاد، قال قائل: فما وجه إدخال الباء في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} وقد علمنا أن المعروف من كلام العرب: ألقيت إلى فلان درهماً دون ألقيت إلى فلان بدرهم؟ قيل: قد قيل: إنها زيدت نحو زيادة القائل الباء في قوله: جذبت بالثوب وجذبت الثوب، وتعلقت به وتعلقته، وتنبت بالدهن وإنما هو تنبت الدهن. وقال آخرون: الباء في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} أصل للكلمة؛ لأن كل فعل واقع كني عنه فهو مضطر إليها؛ كنحو قولك في رجل: كلمته، فأردت الكناية عن فعله فإذا أردت ذلك قلت: فعلت به، قالوا: فلما كان الباء هي الأصل جاز إدخال الباء وإخراجها في كل فعل سبيله سبيل كلمته، وأما التهلكة فإنها التفعلة من الهلاك.