للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد علق القرطبي على هذا الرأي بقوله:

(قلت: ومن هذا ما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً؟ قال: ((فلك الجنة)) . فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: ((من يردهم عنا وله الجنة؟)) أو ((هو رفيقي في الجنة؟)) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنصفنا أصحابنا)) هكذا الرواية ((أنصفنا)) بسكون الفاء ((أصحابنا)) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا) ، وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه والله أعلم) .

الرأي الرابع: قال محمد بن الحسن في السير الكبير: إن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك؛ لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، وإنما ينبغي للرجل أن يفعل ذلك إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل، فيقتلون وينكون في العدوِّ فلا بأس بذلك إن شاء الله؛ لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو، ولا يطمع في النجاة، لم أرَ بأساً أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكي غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجوراً.

وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك؛ لأن هذا أفضل النكاية، وفيه منفعة للمسلمين) .

وقد علق الجصاص على قول محمد بن الحسن هذا قائلاً: (والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره، وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو، إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين، ولا على المسلمين، فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (١) .

وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (٢) . وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (٣) في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بَذَلَ نفسه لله.


(١) الآية ١١١ من سورة التوبة
(٢) الآية: ١٦٩ من سورة آل عمران
(٣) الآية ٢٠٧ من سورة البقرة

<<  <  ج: ص:  >  >>