اتجه تصور الفقهاء المعاصرين لعقد التأمين إلى أنه عقد معاوضة فيه: ثمن (هو رسوم التأمين) ، ومثمن (هو التعويض الذي يدفع عند وقوع المكروه) ، وبائع (هو الشركة) ، ومشتر (وهو المستأمن) . وبناء عليه حكم على هذا العقد بالفساد للغرر، لأن دفع المثمن احتمالي يرتبط حدوثه بوقوع المكروه. أما أن عقد التأمين عقد معاوضة فهذا ما لا خلاف عليه، لكن الاختلاف على المحل؛ فإن المحل المتعاقد عليه فيه هو الالتزام بالتعويض وليس المبلغ المحدد للتعويض، فالمستأمن يدفع مبلغًا محددًا (رسوم التأمين) مقابل التزام الشركة بتعويضه عن الضرر في حال وقوع المكروه الموصوف في العقد، تعويضًا متفقًا عليه، ولذلك فإن المحل المتعاقد عليه –وهو الالتزام- موجود في عقد التأمين سواء انتهى بدفع التعويض عن الخسارة، أم تحققت السلامة للمستأمن.
وعلى ذلك فإن الالتزام الذي تلتزم به الشركة للتعويض ليس أمرًا احتماليًا، بل هو واضح يحصل عليه المستأمن بمجرد انعقاد العقد، ويترتب على ذلك الشعور بالأمان من قبل المستأمن، وهو الأمان الذي اشتق منه اسم التأمين. وهذا حاصل، سواء انتهى العقد بوقوع المكروه ودفع التعويض، أو انتهى بالسلامة وعدم الحاجة إلى دفع التعويض. وهو شبيه في ذلك بالكفالة (الضمان) ؛ فإن الرجل إذا كفل المدين أمام دائنه فإن التزامه بالضمان قد وقع، ولكن تسديد الدين إلى الدائن مرتبط بأمر احتمالي هو مطالبة الدائن له عند عجز المدين أو غيابه وقت السداد، ولا اختلاف أن محل العقد هو الالتزام بالدفع.
ورب قائل يقول: لا يكون بين التصور الأول والتصور الثاني فرق إلا في حالة كون الالتزام من قبل الشركة هو التزام بتعاقد جديد فيه ثمن ومثمن، أما وقد التزمت الشركة بتعويضه عن الضرر فهي إما أنها ستدفع مبلغًا للتعويض، وإما أنها لن تدفع، مع قبضها في كلا الحالين للرسم الذي هو ثمن الالتزام (إذا تصورناه كذلك) ، فأصبح المحل في حقيقته هو ذلك المبلغ الذي يدفع تعويضًا. والجواب أن ما ذكر صحيح لو كان هذا عقدًا واحدًا منفردًا، ولكن الشركة القائمة على التأمين تطبق قانون الأعداد الكبيرة، ولذلك فهي تجمع من كل المستأمنين رسومًا تكفي لتغطية مخاطرهم المتوقعة، فالتزام الشركة بالتعويض عن الضرر إنما هو التزام منها بأن تدفع لمن تعرض للمكروه جزءًا من الأموال التي بيد الشركة والتي جمعتها من المستأمنين، فأشبهت ذلك الكفيل الذي سدد الدين للدائن ثم رجع إلى المدين بما أدى.