آخرُ صيحاتِ المدعو ناب – أجلّكم اللهُ! – أنّهُ كتبَ مقالةً يظهرُ فيها بثوبِ المبجّلِ المعظّمِ للعلماءِ!! ، يردُّ عليهم بأدبٍ وتؤدةٍ، ويُناقشُ بعلمٍ وحصافةٍ، وذكّرني في مقالتهِ هذه – وقد كتبها باسمهِ الصريحِ في جريدةِ الجزيرةِ اليومَ – بتلكَ الراقصةِ التي تتحجّبُ في أزقّةِ حيّها، بينما تخرجُ أمامَ الملايينِ في الشاشةِ وهي عاريةٌ ترقصُ وتمتهنُ البغاءَ.
ناب – يا سادة – يشتمُ الصحابةَ والتابعينَ بأسمائهم، ويتسلّى بذلك في مقالاتهِ التي يكتبها في المنتدياتِ، فقد سبقَ لهُ شتمُ معاويةَ رضي الله عنهُ، وتعرّض بالطعنِ لأبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ، وأمّا خصمهُ اللدودُ وقاهرهُ وقاهرُ جميعُ العصرانيينَ والليبراليين فهو ابنُ تيميّةَ – برّدَ اللهُ مضجعهُ -!! ، ولا يكادُ يمرُ اسمُ ابنُ تيميّةَ إلا وينتفضُ ناب مستعداً للشتمِ والسبِّ!! ، إلا أنّهُ في جريدةِ الجزيرةِ ولأنّهُ يكتبُ باسمهِ الصريحِ فقد اضطرَّ للنفاقِ والتجمّلِ وإطلاقِ لقبِ الإمامِ على شيخِ الإسلامِ! .
وناب أيضاً من دعاةِ العلمانيّةِ الصريحةِ، يتبجّحُ بذلكَ علانيةً، ويُعلنُ الحربَ الصريحةَ على الدعوةِ السلفيّةِ، تلكَ التي يقتاتُ هو على بقايا خيرِها بعد أن مهّدَ اللهُ أمرَ هذه الجزيرةِ على يدِ جدّهِ الإمامِ محمّد بن عبدِ الوهابِ ومعهُ الإمام محمد بن سعود – جادَ اللهُ ثراهم بمزون الرحمةِ -، روّوا الأرضَ بدماءِ العلماءِ في سبيلِ نصرةِ التوحيدِ وإقامةِ الدعوةِ السلفيّةِ، فكفرَ بها من جملةِ من كفرَ ناب، ولولا تلك الدعوةُ لكان ناب الآن حمّالاً في سوقِ الجفرةِ.
كانتْ مقالتهُ بعنوانِ " الهويملُ.. آخرُ الديناصوراتِ المعاصرةِ "، وإنَّ ممّا زادَ بهِ الدكتورُ حسنُ الهويملُ – أسعدَ اللهُ أيّامهُ – شرفاً وفخراً أنَّ ناباً شبّههُ بالديناصوراتِ، في الوقتِ الذي أبى فيه ناب إلا أن ينحدرَ إلى مستوى الذبابِ قذراً وعفناً، فلا تجدهُ إلا في أقذرِ الأمكنةِ الفكريّةِ، ولا يبحثُ إلا عن النتنِ يدسُّ فيهِ أنفهُ ويجدُ في ذلك متعةً وسلوةً، فشتّان بينَ الديناصوراتِ العاليةِ القدرِ والهمّةِ وبينَ الذبابِ الدنيءِ النفسِ والقذرِ الطبعِ.
لندخل إلى صلبِ الموضوعِ، وهو ردٌّ كتبتهُ على عجلٍ لبعضِ أقوالهِ واستدلالاتهِ العجيبة! :
زعمَ في مقالتهِ أنَّ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميّةَ حرّمَ الكيمياءَ – وهو العلمُ المعروفُ في زمانِنا - لما فيها من المضاهاةِ، وأرادَ ناب إفهامنا – كذباً وتزويراً - أنَّ شيخَ الإسلامِ يرى أنَّ الكيمياءَ تصنعُ أشياء تضاهي بعضَ ما خلقهُ اللهُ، ولهذا فهي محرّمةٌ! ، ثمَّ طردَ فهمهُ لكلامِ ابنِ تيميّةَ بقولهِ " وحسب قاعدة المضاهاةِ هذه يمكنُ القولُ إنَّ السيّارةَ مُحرّمةٌ أيضاً! ، والعلّةُ تكمنُ – حسبَ القاعدةِ – في مضاهاتِها للإبلِ والخيلِ والحميرِ والبغالِ " انتهى كلامهُ.
وهذا يدلُّ على جهلهِ الفاضحِ بكلامِ شيخِ الإسلامِ – رحمهُ اللهُ -، وجهلهِ كذلكَ بعلمِ البحثِ والأدلّةِ، وغبائهِ أيضاً في القياسِ والتسويةِ!! ، وهو الذي نعى علينا جهلنا بهِ، ليقعَ ضحيّةً فيما نهانا عنهُ من قبلُ! ، ذلك أنَّ كلامَ شيخِ الإسلامِ – رحمهُ اللهُ – في تحريمِ الكيمياءِ إنّما كانَ في صورٍ مُحدّدةٍ للكيمياءِ، وهذه الصورُ غيرُ ما يعهدهُ النّاسُ في زمانِنا من علمِ الكيمياءِ، وفي القاعدةِ الأصوليّةِ " العرفُ المقارنُ للخطابِ يُخصّصُ عمومَ اللفظِ ".
توضيحُ ذلكَ: أنَّ كلامَ شيخِ الإسلامِ في صورةٍ مُخصّصةٍ وهي الكيمياءُ التي يستخدمها النّاسُ ليزيّفوا بها بعضَ المعادنِ، ويغشّوا الناسَ فيها، وهذه يقعُ فيها المضاهاةُ في الشكلِ دون الحقيقةِ، فتُباعُ على أنّها ذهبٌ أو جوهرٌ نفيسٌ، وإنّما هي في حقيقةِ الأمرِ معدنٌ زائفٌ تمَّ تعديلهُ بحيلِ الكيمياءِ، فهي من هذا الوجهِ يحرمُ تعلّمها واستخدامها، وهذا واضحٌ تماماً في كلامِ شيخِ الإسلامِ، يقولُ مثلاً في معرضِ جوابهِ عن عملِ الكيمياءِ: " وأمّا الكيمياءُ فإنّهُ يُشبهُ فيها المصنوعُ بالمخلوقِ، وقصدُ أهلها إمّا أن تجعلَ هذا كهذا، فينفقونهُ ويعاملونَ بهِ النّاسَ، وهذا من أعظمِ الغشِّ " – الفتاوى ج ٢٩ -.
وقال بعد ذلكَ: " وأهلُ الكيمياءِ من أعظمِ النّاسِ غشّاً، ولهذا لا يظهرونَ للنّاسِ إذا عاملوهم أنَّ هذا من الكيمياءِ، ولو أظهروا للنّاسِ ذلكَ لم يشتروهُ منهم إلا من يريدُ غشّهم ".
وقالَ أيضاً: " وكذلك طلاب الكيمياءِ الذين يُقالُ لهم الحدبانُ لكثرةِ انحنائهم على النّفخِ في الكيرِ، أكثرهم لا يصلون إلى الحرامِ، ولا ينالونَ المغشوشَ، وأمّا خواصهم فيصلونَ إلى الكيمياءِ، وهي محرّمةٌ باطلةٌ، لكنّها على مراتبَ: منها ما يستحيلُ بعدَ بضع سنين، ومنها ما يستحيلُ بعدَ ذلكَ، لكن المصنوعَ يستحيلُ ويفسدُ ولو بعدَ حينٍ، بخلافِ الذهبِ المعدنيِّ المخلوقِ فإنّهُ لا يفسدُ ولا يستحيلُ، ولهذا ذكروا أنَّ محمد بن زكريا الرازيَّ المتطبّبَ – وكان من المُصحّحينَ للكيمياءِ – عمل ذهباً وباعهُ للنّصارى، فلمّا وصلَ إلى بلادِهم استحالَ، فردّوهُ عليهِ، ولا أعلمُ في الأطباءِ من كانَ أبلغَ في صناعةِ الكيمياءِ منهُ ".
وذكرَ ابنُ مُفلحٍ – وهو من أعلمِ النّاسِ بكلامِ شيخهِ ابنِ تيميّةَ في الفقهِ وأفقهِ أصحابهِ – أنَّ شيخهُ حرّمَ الكيمياءَ لأنّها غشٌّ فقالَ: " قالَ شيخُنا: الكيمياءُ غِشٌّ، وهي تشبيهُ المصنوعِ من ذهبٍ أو فضّةٍ بالمخلوقِ " – الفروع ٦/ ١٦٨ -.
وفي قولهِ – نقلاً عن شيخهِ -: الكيمياءُ غِشٌّ، ما يُفيدُ القارئَ أنَّ علّةَ تحريمِ الكيمياءِ عندَ شيخِ الإسلامِ إّنما هو الغِشُّ الواقعُ فيها، وذلك لأنَّ من مسالكِ العلّةِ المعروفةِ عندَ علماءِ البحثِ والنّظرِ: الإيماءُ، وهو أن يقترنَ الحكمُ بالوصفِ على وجهٍ لو لم يكنْ فيه الوصفُ علّةً للحكمِ، لكانَ ذلكَ مُخلاً بالفصاحةِ، وبسطُ ذلكَ في كتبِ الأصولِ.
يخلُصُ لنا ممّا سبقَ: أنَّ تحريمَ ابنِ تيميّةَ للكيمياءِ إنّما هي في ضربٍ مخصوصٍ منهُ، وهو ما كانَ يُعملُ للمعادنِ من أجلِ صناعةِ معدنٍ مُشابهٍ للأصيلِ، وأنَّ غالبَ ذلكَ هو من الغِشِّ والتدليسِ في المعاملةِ، وليسَ مقصودهُ علمُ الكيمياءِ المعروفِ في زمانِنا والقائمِ على معرفةِ خواصِّ الموادِّ ونحوِها.
على أنَّ هناكَ صوراً وأصنافاً أخرى للكيمياءِ، وقعتْ في عصرهِ وبعدَ عصرهِ، وقد اعتبرها العلماءُ – بخصوصِها - من السحرِ، كما قالَ ابنُ خلدون – في المقدمةِ -: " وأنت ترى كيف صرفَ ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الرمزِ والألغازِ التي لا تكادُ تبين ولا تعرفُ، وذلك دليلٌ على أنها ليست بصناعةٍ طبيعيةٍ، والذي يجبُ أن يُعتقد في أمر الكيمياء وهو الحقّ الذي يعضده الواقعُ أنها من جنسِ آثار النفوسِ الروحانيةِ، وتصرفها في عالمِ الطبيعةِ إما من نوع الكرامةِ إن كانت النفوس خيّرة، أو نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرةٍ ".
وإذا كانَ للغباءِ ميثاقٌ شرفيٌّ فإنَّي لا أجدُ أحطَّ ولا أغبى من هذه العبارةِ في كلامهِ: " وحسب قاعدة المضاهاةِ هذه يمكنُ القولُ إنَّ السيّارةَ مُحرّمةٌ أيضاً! ، والعلّةُ تكمنُ – حسبَ القاعدةِ – في مضاهاتِها للإبلِ والخيلِ والحميرِ والبغالِ "!! ، اقرأوها واحمدوا الله على نعمةِ العقلِ والعافيةِ من بلادةِ الليبراليينَ من أمثالِ ناب.
وهذه النقولُ تبيّنُ كذبَ الكاتبِ وتلبيسهُ على القرّاءِ، ليزعمَ بذلكَ أنَّ علماءَ الإسلامِ وأئمّةَ السلفِ كانوا يُحاربونَ العلومَ التجريبيّةَ والتطبيقيّةَ، وأنَّ حضارتهم كانتْ مبنيّةً على ثقافةِ الزهدِ ومجافاةِ أسبابِ الرّخاءِ، فضلاً عن نبذِ الحضاراتِ الأخرى ورفضِ التواصلِ معها!! .
إنَّ من يطلع على كتاباتِ علماءِ الإسلامِ يجدُ أنّهم كانوا يتواصلون مع الحضاراتِ الأخرى، ويأخذونَ من علومِ المخالفينَ المادّيّةِ ما لا يتعارضُ منها مع الشريعةِ وأصولِها، بل إنَّ الحضاراتِ لا يمكنُ أن تنشأ معزولةً عن العالمِ أو محاطةً بسياجٍ من الفوقيّةِ المانعةِ من التعاطي مع المخالفينَ، وهذا ما حصلَ مع الحضارةِ الإسلاميّةِ العظيمةِ، التي بنتْ أسسها على كتابِ اللهِ تعالى وسنّةِ النبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – وانفتحتْ على الحضاراتِ والأممِ والشعوبِ الأخرى، وأخذتْ منها ما أفادها في معاشِها وحياتِها، ولم تعشْ متقوقعةً على نفسِها في جوٍّ من القطيعةِ مع الآخرين.
يقولُ شيخُ الإسلامِ عن بعضِ الفلاسفةِ: " لهم في الطبيعيّاتِ كلامٌ غالبهُ جيّدٌ، وهو كلامٌ كثيرٌ واسعٌ، ولهم عقولٌ عرفوا بها ذلكَ، وهم يقصدونَ الحقَّ ولا يظهرُ عليهم العنادُ، لكنّهم جهّالٌ بالعلمِ الإلهي إلى الغايةِ " – الردِّ على المنطقيينَ ١٤٣-، وهذا يبيّنُ ما قرّرتهُ سابقاً من تفاعلِ الحضارةِ الإسلاميّةِ وتواصلِها مع الحضاراتِ الأخرى وإقرارِها لما في يديها من الحقِّ وإفادتِها منهُ، مع رفضِ ما فيها من جوانبِ الانحرافِ والزيغِ، وكشفِ ذلك للنّاسِ وبيانِهِ لهم حتى لا يتلبسَ عليهم الحقُّ بالباطلِ.
ويقولُ شيخُ الإسلامُ في معرضِ كلامهِ عن الأطباءِ وأهلِ الهندسةِ " هم من أذكى النّاسِ، ولهم علومٌ صحيحةٌ طبّيّةٌ وحسابيّةٌ، وإن كانَ ضلَّ منهم طوائفُ في الأمورِ الإلهيةِ فذلك لا يستلزمُ أن يضلّوا في الأمورِ المتعلّقةِ بالعلومِ الطبيعيّةِ كالطبِّ والحسابِ.... حتّى إنَّ محمّد بن زكريّا الرازيِّ مع إلحادهِ في الإلهياتِ والنبواتِ هو من أعلمِ النّاسِ بالطبِّ، حتّى قيلَ عنهُ جالينوس الإسلامِ " – المنهاج ٢/٥٧٢ -.
وقد خبطَ ناب في مقالهِ خبطَ عشواءَ، فلم يُشرْ إلى الفرقِ بين الحضارةِ وبين المدنيّةِ، وأدخلَ فروعِ هذه في تلك، وهذا من الأخطاءِ المنهجيّةِ، التي تدلُّ على انعدامِ أساسٍ صحيحٍ للمعرفةِ لديهِ، فهو إنّما يتحرّكُ من حنقهِ على المدرسةِ السلفيّةِ وينطلقُ منها هادماً تراثها بكل ما يقعُ تحتَ يدهِ من الكتبِ والأبحاثِ، دون أن يجمعَ بينها نسقٌ واحدٌ، أو يبنيها على أسسٍ معرفيّةٍ وبحثيّةٍ سليمةٍ.
ولعلَّ البعضَ يعترضُ قائلاً بأنَّ هناكَ من جعلَ الحضارةَ والمدنيّةَ مترادفتينِ، والجوابُ عن هذا أنَّ هذا نوعٌ من التّواضعِ في إطلاقِ المُصطلحِ على أفرادِ الصورِ، ولا أريدُ أن أدخلَ هنا في إشكاليةِ المُصطلحِ والحدِّ، إلا أنَّ الحضارةَ لدى الكثيرين لا تعني المدنيّةَ وإنّما تعنى جانباً آخرَ وهو الاستعدادُ الروحيُّ والعقليُّ لقبولِ المعارفِ والتفاعلِ معها – كما هو تعبيرُ ألبرت اشفيستر في كتابهِ فلسفة الحضارةِ ٣٤ -، وفي تاريخِ الحضاراتِ العامِّ: الحضارةُ مجموعةٌ من الخططِ والنّظمِ القمينةِ بإشاعةِ النّظامِ والسلامِ والسعادةِ وبتطويرِ البشريّةِ الفكريِّ والأدبيِّ – ص ١٧ -، ويميلُ بعضُ الباحثينَ إلى أنَّ الحضارةَ هي صورةُ التعبيرِ عن الرّوحِ العميقةِ للمجتمعِ، فأمّا مظاهرُ التقدّمِ الآلي والتكنولوجي فإنّهُ مما يتصلُ بمعنى المدنيّةِ، ولبعضِ علماءِ الاجتماعِ تفريقٌ لطيفٌ بينَ الحضارةِ والمدنيّةِ وهو أنَّ الحضارةَ هي ما نحنُ، والمدنيّةُ هي ما نستعملُ، وبعبارةٍ أخرى فإنَّ الحضارةَ في رأيهم تتمثّلُ في الفنونِ والآدابِ والدياناتِ والأخلاقياتِ، بينما تتمثّلُ المدنيّةُ في السياسةِ والاقتصادِ والتكنولوجيا – التغير الحضاري وتنمية المجتمع ٤١ -.
فالحضارةُ إذن عبارةٌ عن منظومةٍ من المبادئ والأفكارِ والتصوّراتِ والمعاييرِ، والإسلامُ أرسى دعائمِ هذه الأمورِ، فالقولُ – كما يقولُ ناب – بأنَّ الإسلامِ حضارتهُ حضارةٌ قاصرةٌ غيرُ شاملةٍ هو تجنٍّ في حقيقتهِ على الشريعةِ الإسلاميّةِ أو جهلٌ من صاحبهِ بها، فالإسلامُ أرسى دعائمَ الحضارةِ، والمسلمونَ عملوا بمقتضى هذه الدعائمِ وظهرَ من صورِها في حياتهم العديدُ من المناشطِ المدنيّةِ، بل إنَّ تخلفَ بعضِ صورِ المدنيّةِ لا يعني قصوراً في الحضارةِ أو طعناً فيها.
ولقد أجمعَ الباحثونَ – مسلمهم ومستشرقهم – على أنَّ الغربَ وأوروبا تحديداً لم يتحرّك فيها العلمُ إلا بعدَ تواصلِهم مع العربِ والمسلمينَ، سواءً كانَ ذلكَ عن طريقِ التواصلِ المباشرِ في بلادِ الأندلسِ وصقليّة ونحوِها، أو عن طريقِ التواصلِ المعرفيِّ بقراءةِ مؤلّفاتِهم والنهجِ على طريقِهم، وقد كان الأوربيّون عاكفونَ على منطقِ أرسطو فلم يتقدّموا شيئاً للأمامِ، ولكنّهم عندما فُتحَ لهم بابُ العلمِ التجريبيِّ – وأساسهُ كان عند ابنِ تيميّةَ كما سوف يأتي – تحوّلوا إلى أمّةٍ أخرى، ولو جئتُ أنقلُ النصوصَ المؤكّدةَ لهذا لضاقَ المقامُ لطولِها وكثرِتِها، ولكن ما عسانا أن نفعلَ مع أمثالِ ناب ممن إذا أتيناهُ بكل آيةٍ ما غيّرَ رأيهُ!! ، ذلك لأنَّ قلبهُ وعقلهُ مع الغربِ قد أُشربَ من هواهم.
إنَّ من يزعمُ اليومَ بأنَّ الغربَ بعدوانهِ وانحطاطهِ وتخلّفهِ القيَمي وانحدارهِ الخُلقيِّ يُشكّلُ حضارةً راسخةً فإنّما يُغالطُ نفسهُ، نعم لدى الغربِ مدنيّةٌ وعمرانٌ وصناعةٌ وتقنيةٌ، لكنّهُ عارٍ من قيمِ الحضارةِ الحقّةِ، فهو لا يعرفُ للأخلاقِ معنى إلا ما شهدتْ بهِ المنفعةُ، وحداثتهم قائمةٌ على أُسسٍ ماديّةٍ أغفلوا فيها جانبَ الرّوحِ تماماً، وهذا ما جعلهم يعيشون حياةً شبيهةً بحياةِ البهائمِ في كثيرٍ من شئونِ حياتِهم.
ومن تهافتهِ في مقالتهِ أنّهُ زعمَ أنَّ شيخَ الإسلامَ وقفَ ضدَّ الفلسفةِ والمنطقِ، وأخذَ يتباكى عليهما زاعماً أنَّ إيقافَ تدريسِها أخملَ جذوةَ العقلِ وأطفأ سراجها، وهذا خبثٌ منهُ لأنّهُ يُريدُ أن يوهمَ القارئَ أنَّ منهجيّةَ المعرفةِ والاستدلالِ في الإسلامِ – كما قرّرها شيخُ الإسلامِ وغيرهُ - تتعارضُ مع العقلِ، بينما منهجيّةُ المنطقِ اليونانيِّ تتفقُ مع العقلِ، كما أنّهُ يُريدُ أن يُشيرَ إلى عدمِ المنهجيّةِ في نقدِ شيخِ الإسلامِ للمنطقِ وتحريمهِ للكثيرِ من علومِ الفلسفةِ، ويعتبرُ ذلكَ عداءً مُجرّداً لمخالفيهِ، وليسَ لهُ أي اعتبارات منهجيّةٍ أخرى.
إنَّ شيخَ الإسلامِ في نقدهِ وردّهِ على المناطقةِ والفلاسفةِ إنّما ينطلقُ من رؤيةٍ معرفيّةٍ ونظرةٍ استدلاليّةٍ إسلاميّةٍ واضحةٍ، فالشريعةُ الإسلاميّةُ جاءتْ برؤيةٍ واضحةٍ لقضايا المعرفةِ والبحثِ والاستدلالِ، وهذه الرؤيةُ الإسلاميّةُ رؤيةٌ أصيلةٌ لا يحتاجُ معها المسلمُ إلى موازينِ المنطقِ وقواعدهِ، لأنّها منسجمةٌ مع العقلِ غيرُ متعارضةٍ معهُ، فكانَ رفضُ شيخِ الإسلامِ للمنطقِ والفلسفةِ لسقوطِ كثيرٍ من قضاياه في نفسِها، وأما ما كانَ منها صحيحاً سالماً من المعارضِ والقادحِ فإنَّ في قواعدِ المعرفةِ والاستدلالِ في الإسلامِ ما يغني عنهُ.
وممّا يؤكّدُ أنَّ شيخَ الإسلامِ كان يؤسّسُ في كلامهِ لمنهجٍ إسلاميٍّ في المعرفةِ ما قالهُ الدكتورُ علي سامي النشارِ – وهو من فلاسفةِ الأشاعرةِ المعاصرينَ -: " وبهذا حقّقَ ابنُ تيميّةَ فكرتهُ القائلةَ بأنَّ للمسلمينَ طرقاً خاصّةً في البحثِ مُستمدّةً من القرءانِ وقائمةً عليهِ " – مناهجُ البحثِ ٢٨١ – ويقولُ مصطفى عبدِ الرازق أحدُ أكبرُ الفلاسفةِ المعاصرينَ وأستاذُ الفلسفةِ في الأزهرِ: " إنَّ الدراساتِ المنطقيّةِ لو سارتْ منذ عهد ابنِ تيميّةَ على نهجهِ في النقدِ بدلَ الشرحِ والتعمّقِ، لكنّا بلغنا بها من الرّقيِّ مبلغاً عظيماً " – مناهجُ البحثِ ٢٨٢ -.
وأيضاً فإنَّ شيخَ الإسلامِ كانَ يحمل رؤيةً خاصّةً في علمِ المنطقِ مؤدّاها أنَّ العلومَ النظريّةَ كلّها غيرُ مفيدةٍ، وهذا ما جعلهُ يؤسّسُ لفلسفةٍ تجريبية على أنقاضِ الفلسفةِ النظريّةِ الجامدةِ، يقولُ محمد عبد الستار نصّار – وهو من مخالفي ابن تيميّةَ -: " وأخيراً لا يسعنا أمامَ هذه الرّوحِ العلميّةِ التجريبيّةِ التي اتسمتْ بها فلسفةُ ابنُ تيميّةَ إلا أن نُقرّرَ أنّهُ لو قُدّرَ لهذه الفلسفةِ أن توضعَ في قالبٍ منهجيٍّ، لعُدَّ ابنُ تيميّةَ – بحقٍّ – على رأسِ الفلاسفةِ التجريبيينَ، وحسبهُ أنّهُ وضعَ الأفكارَ في وقتٍ كانتْ أوربا ترسفُ في أغلالِ الجهلِ وتعاني من جمودِ الفكرِ النظريِّ طوالَ العصورِ الوسطى " – المدرسةُ السلفيّةُ ٤٤٩ -.
والمعرفةُ في الإسلامِ تقومُ على منهجٍ واضحٍ في الاستدلالِ، لهُ مصادرُهُ ومجالاتُهُ، وثمّةَ توافقاً وتكاملاً بينَ المعرفةِ وبينَ مصادرِها ومجالاتِها، والمقصودُ بالتوافقِ عدم التعارضِ بينَ المصادرِ التي قد تشتركُ في الدلالةِ على بعضِ المجالاتِ، والمقصودُ بالتكاملِ إثباتُ أنَّ لكلِّ مصدرٍ حدودهُ ومجالاتهُ التي يختصُّ بها، بحيثُ تكونُ دلالاتُ المصادرِ المختلفةِ متكاملةً لا متعارضةً، وهذا يُبينُ لنا اختصاصَ المعرفةِ في الإسلامِ بالدلالةِ على الحقِّ في جميعِ جوانبِ المعرفةِ – يُراجعُ للتوسّعِ كتابُ " المعرفةُ في الإسلامِ " -، وهو ما يجعلُ المسلمَ في غنى عن جميعِ مصادرِ المعرفةِ والاستدلالِ الأخرى كعلمِ المنطقِ وغيرهِ.
وممّا يؤكّدُ أنَّ الحضارةَ الإسلاميّةَ حضارةٌ شاملةٌ كاملةٌ هو وجودُ مصادرَ مستقلّةٍ للمعرفةِ والبحثِ والاستدلالِ في الإسلامِ، تتوافقُ مع الحسِّ والعقلِ وتتكاملُ معها، ولا يوجدُ – بحمدِ اللهِ تعالى – تعارضٌ بين أصولِ الشريعةِ وبين العقلِ.
وبهذا يظهرُ لنا أنَّ ما فعلهُ شيخُ الإسلامِ في نقدهِ للمنطقِ وأفكارِ الفلاسفةِ لم يكنْ جانباً هدميّاً فحسب، أو كانَ حرباً للعلومِ الأخرى الخارجةِ عن علومِ الشريعةِ، كما يصوّرها لنا ناب!! ، وإنّما كان نقداً لها وتزييفاً، وإنشاءً وتأسيساً لأصولِ المعرفةِ والاستدلالِ في الإسلامِ وتأصيلِ ذلكَ، بل وإمدادِ البشريّةِ بأُسسِ العلمِ والمنطقِ التجريبيِّ وهو ما تعيشُ عليهِ أوربا الآن في فورةِ قوّتها ومجدِها، بعد أن غرقتْ قديماً في سفسطاتِ المنطقِ النظريِّ، ويعودُ فضلُ ذلكَ بتوفيقِ اللهِ تعالى لابنِ تيميّةَ إليهِ وهدايتهِ إلى إرساءِ دعائمهِ.
ويزدادُ صلفُ ناب وكذبه حينَ يقولُ: " كما أنَّ الحضارةَ كمصطلح هي مفهومٌ قادمٌ إلينا من خارجِ منظومتنا اللغويّةِ والثقافيّةِ!! "، ولا أدري كيف يجرؤُ على مثلِ هذا التلفيقِ والافتراءِ الواضحِ! ، ذلك أنَّ الحضارةَ قد تحدّثَ عنها وعن تعريفِها وعن مقوّماتِها العلاّمةُ ابن خلدون في كتابهِ المقدّمةِ، وذلك في القرنِ الثامنِ الهجريِّ، في الفترةِ التي تمثّلُ عصورَ الانحطاطِ والظلامِ في أوربا.
وهذا يوضحُ لنا تقدّمَ المسلمينَ في علومِ العمرانِ والاجتماعِ والسياسةِ على الغربِ، خلافاً لما افتراهُ ناب في مقطعٍ آخرٍ بقولهِ: " قصورُ الثقافةِ الإسلاميّةِ في مجالِ السياسةِ "، والثقافةُ التي يريدُها ناب هي الثقافةُ القائمةُ على الفصلِ بينَ التشريعاتِ الإسلاميّةِ وبينَ إدارةِ شئونِ الحياةِ، وأن تبقى الشريعةُ محصورةً في العباداتِ الظاهرةِ والروحانياتِ ولا تتعدّاها إلى صبغِ الحياةِ كلّها بالشريعةِ الإسلاميّةِ، وإنَّ أي دراسةٍ أو مؤلَّفٍ يؤصّلُ للحكمِ بشرعِ اللهِ، أو يُقرّرُ مسائلَ السياسةِ الشرعيّةِ، فهي ناقصةٌ غيرُ كاملةٍ، ما لم تحملْ في ثناياها المنهجَ الغربيَّ ورؤيتهُ الليبراليّةَ للحياةِ! .
" ومن هنا يُمكنُنا القولُ إن الحضارةَ مُنتجٌ إنسانيٌّ "، هذه العبارةُ من كلامهِ تكشفُ لنا حقيقةَ مقالهِ، لأنّهُ يُريدُ من جميعَ ما سبقَ إيرادهُ أن يُسقطَ البعدَ الدينيَّ عن الحضارةِ، ويجعلها نصيباً مُشتركاً بينَ الإنسانيّةِ، لا يؤثّرُ فيها دينٌ أو يحدّها شرعٌ، وكلامهُ هذا يردُّ عليهِ الواقعُ الذي يشيرُ إلى أنَّ الإسلامَ وحّدَ ملايينَ البشرِ، كانوا ينتمونَ إلى حضاراتٍ شتّى، فجمعهم على حضارةٍ واحدةٍ شاملةٍ تامّةٍ، ولم يحملهم على إلغاءِ مكتسباتِهم من حضاراتِهم السابقةِ ممّا لا يتعارضُ مع أحكامِ الشريعةِ، وإنّما دعاهم إلى التفاعلِ مع الحضارةِ الجديدةِ، ولم يعرفْ أحدٌ من الناسِ لهذه الرابطةِ الاجتماعيّةِ إطاراً توصيفيّاً دقيقاً إلا الحضارةَ الإسلاميّةَ.
يقولُ مالكُ بنُ نبيٍّ: " إنَّ الحضارةَ لا تنبعثُ إلا بالعقيدةِ الدينيّةِ، والحضارةُ لا تظهرُ في أمّةٍ من الأممِ إلا في صورةٍ وحي يهبطُ من السماءِ، يكونُ للنّاسِ شرعةً ومنهاجاً " – شروطُ النهضةِ ٧٦ -.
للحديثِ بقيّةٌ ولكنّي أطلتُ، واعذروني على تداخلِ الكلامِ لعدمِ التحريرِ والمراجعةِ.