للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذه الأمثلة من الفقه، أن ولي الأمر الأعلى (أمير المؤمنين) له ألا يعتبر الحيازة، وإن قدم حائزها بينات على سلامة السبل التي تأثل منها ماله، بل يعتبر ما هو أبعد من ذلك، فالذي يلي أمرا من أمور المسلمين، له رزقه ورزق عياله وكسوته، وأن يتزوج إن يكن عازبا من مال المسلمين، وليتخذ خادما، وأن يتخذ مسكنا، لكن عليه لقاء ذلك، أن يقف كل وقته وجهده وهمه لأمور المسلمين، فإذا تأثل مالا أكثر مما يمكن أن يوفره من رزقه المقرر له من بيت مال المسلمين، كان معنى ذلك أنه بذل من جهده ووقته وهمه نصيبا كبيرا أو صغيرا ليس ملكا له، وإنما هو ملك للمسلمين، وعلى هذا الاعتبار- في ما يتراءى لنا اعتمد عمر والمصلحة المرسلة والمصلحة العامة للمسلمين، هما القاعدتان البارزتان لاجتهاداته، لاسيما في المجال السياسي- في هذه الأمثلة وفي غيرها من تصرفاته مع عماله، فأبطل اعتماد الحيازة وعدم وجود أية شبهة في ما في أيديهم من المال، مسوغين لهم أن يحتفظوا بما تأثلوه، وبهذا سبق عمر من جاؤوا من بعده بقرون، فشرعوا ما سموه (قانون من أين لك هذا؟) لأن هؤلاء اعتمدوا في ما وضعوا من أحكام وضوابط على مجرد التأكد من أن المسؤول أمام تشريعهم عن تقديم البينات على مصادر ماله، ليس مطلوبا منه إلا أن يثبت براءته من الارتشاء واستغلال النفوذ، فإن أثبتها، فلا جناح عليه إن صرف من جهده ووقته وهمه جانبا وقد يكون الجانب الأكبر في استثمار ما بيده من مال اجتمع له من رزقه الشهري أو ورث بعضه، استثمارا ألحقه بزمرة كبار رجال الأعمال وكبار التجار والمترفين، مع أن ما صرفه من جهد ووقت وهم، ليس ملكا له، وإنما هو ملك للدولة التي يعمل لها، حصلت عليه منه برضاه واختيار لقاء الرزق الشهري الذي يتقاضاه، وغالبا ما يكون هو الذي سعى إليها بمختلف الوسائل، يلتمس أن توليه من أمرها لقاء ذلك الرزق، وشتان بين شريعة العباد وشريعة الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>