هذا ما قد يبدو لأول وهلة، ولكن عند التأمل يتبين لنا المفارقات الآتية:
أولًا: أن أصدق تعريف لعروض التجارة هو: كل ما يعد للبيع من الأشياء بقصد الربح، كما جاء في حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا الزكاة مما يعدونه للبيع. وقد تقدم في زكاة التجارة.
ومما لا يخفى أن هذه العمارات والمصانع وما شاكلها كلها لا يعدها مالكها للبيع. بل للاستغلال. وإنما ينطبق هذا على التجار والمقاولين الذين يشترون العمارات أو يبنونها بقصد بيعها والربح من ورائها. فهذه تعامل معاملة عروض التجارة بلا نزاع.
ثانيًا: أننا لو جعلنا كل مالك يستغل رأس ماله ويبتغي نماءه تاجرًا –ولو كان رأس المال غير متداول وغير معد للبيع- لكان مالك الأرض والشجر التي تخرج له زرعًا وثمرًا تاجرًا أيضًا، ويجب أن يقوم كل عام أرضه أو حديقته ويخرج عنها ربع العشر زكاة، وهذا ما لا يقبل، ولا يقول به أحد.
ثالثًا: أن هذه المستغلات قد يتوقف في بعض الأحيان استغلالها لسبب من الأسباب، فلا يجد صاحب العمارة من يستأجرها، ولا يجد صاحب المصنع المواد الأولية اللازمة، أو الأيدي العاملة، أو السوق الرائجة.. الخ، فمن أين يخرج زكاته؟
إن صاحب العروض التجارية السائلة (المتداولة) يبيعها ويخرج زكاتها من قيمتها، بل يمكن عند الحاجة أن يدفع الزكاة من عينها –كما رجحنا ذلك- ولكن صاحب الدار أو المصنع كيف تؤخذ منه الزكاة إذا لم يكن له مال آخر؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بيع العقار أو جزء منه ليستطيع أداء الزكاة، وفي هذا عسر ظاهر، والله يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر.
ومن هنا تظهر قيمة الفرق بين ما ينتفع بعينه كالعروض التجارية، وما ينتفع بغلته كالعقارات ونحوها.
رابعًا: يعكر على هذا الرأي من الناحية العملية: أن العمارة أو المصنع ونحوه ستحتاج كل عام إلى تثمين وتقدير، لمعرفة كم تساوي قيمتها في وقت حولان الحول، إذ المعهود أن مرور السنين ينقص من صلاحيتها، وبالتالي من قيمتها، كما تقلب الأسعار تبعًا لشتى العوامل الداخلية والخارجية له أثره في هذا التقويم، ولا شك أن هذا التقويم الحولي تلابسه صعوبات تطبيقية، ويحتاج أول ما يحتاج إلى مختصين ذوي كفاية وأمانة قد لا يتوافرون كما أن كل هذا يقتضي جهودًا ونفقات تنتقص أخيرًا من حصيلة الزكاة.
لهذا نرى أن الأولى أن تكون العمارة والمصنع ونحوهما في غلتهما، وهذا ما اتجه إليه الرأيان الآخران، وإن اختلفا في تحديد نسبة ما يؤخذ من الغلة: أهي العشر أو نصفه كما في زكاة الزروع والثمار، أم ربع العشر كما في زكاة التجارة؟