للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو المراد هنا بمعنى قوله صلوات الله وسلامه عليه ((ولمن أتى عليهن)) إتيانا ملاصقا أو قريبا، ويدعم ذلك أن شراح الحديث جميعهم فيما رأيت فسروا كلمة أتى بـ (مر) ، كما فسرت كلمة أتى بمعنى المجيء بعينه في القرآن بـ (مر) قال الزمخشرى في كشافه في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: ٤٠] ، يعني أن قريشا مروا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء (١) ، وقال في تفسير قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: ١٣٨] ، مروا على قوم (٢) ، ومر يتعدى إلى المفعول به بنفسه، وبحرفي الجر الباء وعلى، كما في القاموس: تقول " مره ومر به: جاز عليه، وامتر به وعليه كمر " (٣) .

والباء في التراكيب السابقة تفيد الإلصاق وهو المعنى الذي لا يعارض بالرغم من تعدد معانيها حتى أوصلها ابن هشام إلى أربعة عشر معنى، ومن أجل كون معنى الإلصاق لا يفارقها في جميع معانيها اقتصر عليه سيبويه، يقال: مررت بزيد، أي ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد (٤) .

إذا علمنا هذا فأي إلصاق؟ وأي مرور قريب بالميقات لراكب طائرة تجتاز السحاب، ولا يتسنى نزولها إلا في المطارات، والمطار المعد لنزول الطائرات المقلة لحجاج البيت وعماره هو مطار جدة، ولا يُعترض علينا بأن سطح المسجد من المسجد، وبأن الهواء تابع للقرار، فالتابع غير المبتوع، ونحن متعبّدون بالمرور بالميقات أو المحاذاة له، وواضح عدم تصور المحاذاة لركاب الطائرة؛ لأن محاذاتك للشيء أن يكون على يمينك أو يسارك، لا فوقك ولا تحتك.

هذا والأخذ من كل مذهب بما هو الأهون والأسهل وقع فعلا من أعلام في الفقه الإسلامي، انتقلوا من مذهبهم إلى مذهب آخر قصد التيسير في زمن لم ينقطع فيه اجتهاد المذهب، أو اجتهد الفتوى على الأقل، لا في وقت لا يوجد فيه إلا من يقلد، حُكِيَ أنه أقيمت صلاة الجمعة، وهمَّ القاضى أبو الطيبِ بالتكبير، فإذا طائر قد ذرق عليه، فقال: أنا حنبلي. ثم أحرم بالصلاة، ومعلوم أن الشيخ شافعي يقول بنجاسة ذرق الطائر، فلم يمنعه مذهبه من تقليد المذهب الحنبلي قصدَ التيسير ودفعا للحاجة، كما ذكروا أن القاضى أبا عاصم العامري الحنفي كان يفتي على باب مسجد القفال، والمؤذن يؤذن بالمغرب، فترك الفتوى ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يُثني الإقامة، وقدّم القاضي للإمامة، فتقدم وجهر بالبسملة مع القراءة جريا على المذهب الشافعي.


(١) الزمخشرى. الكشاف: ٢/١١٠.
(٢) المرجع السابق: ١/٥٠٥.
(٣) الفيرروز آبادي. القاموس المحيط: ٢/١٣٧.
(٤) المغني: ١/٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>