للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) . (١) ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه)) الحديث (٢) .

وأما آثار السلف فكثيرة: منها قول مطرف بن الشخير التابعي " خير الأمر أوساطها " (٣) ، ومنها قول الشعبي: " إذا اختلف عليك في أمرين فخذ بأيسرهما "، ثم قرأ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] (٤) ، ومنها قول أمام الفقه والحديث مالك بن أنس رضي الله عنه في مواضع كثيرة من الموطأ: " دين الله يسر " (٥) ، ولا أخاله قالها إلا بعد استقراء تام لنصوص الشريعة ومواردها، واستخلاص هذا المقصد من مقاصدها.

واليسر وسط بين الشدة والتساهل، والتشدد والتساهل يدعو إليهما الهوى، وقد حذرنا الشرع من اتباعه في مواضع كثيرة، فقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: ٢٦] ، وقال جل وعلا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: ١٧١] ، وقال جل جلاله، محذرا هذه الأمة المحمدية من الغلو في الدين والابتداع كما فعل ذلك أهل الكتاب فاستوجبوا غضب الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: ٢٧] ، وقال صلوات الله وسلامة عليه في حق إليهود: ((إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شدودا شدد الله عليهم الحديث)) (٦) .

وحين نقف موقفا وسطا بين الشدة وبين التساهل في قضية الإرخاص لركاب الطائرات من الأفقيين في الإحرام من جدة، نجد أن قيام الشريعة على الوسيطة يساعدنا على إيجاد الجواب الصحيح، وهو الجواز فيما يبدو؛ لأن الحاج من الأفقيين على الطائرة لابد من النزول بجدة، وفيما يؤذن له، أو لا يؤذن بدخول مكة من طرف الحكومة السعودية، فإذا أضفنا إلى ذلك مشقة ركوب الطائرة وحمل الأمتعة بعد النزول واجتياز الجمارك، ومكاتب جوازات السفر، واستعداد ذي النسك بعد ذلك لتبديل عملته، وحمل أمتعته، والسفر إلى مكة، فهل من تيسير الشريعة الذي سقنا أدلته أن يقوم بهذه الأعمال كلها وهو محرم؟ ويكفي ما يتعرض إليه من توتر الأعصاب والإرهاق والغضب وكبح النفس عن الشهوات، مما يجبره قصرا وهو يعاني هذه الأتعاب إلى حرج شديد عند الأكثر، وإلى سباب وشتم عند البعض.


(١) ابن حمزة الحسيني، البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف: ٢/١١١.
(٢) مالك، الموطأ، كتاب الجامع، ما جاء في حسن الخلق: ٤/٢٥١.
(٣) ابن عاشور رحمه الله، مقاصد الشريعة ٦٢، قال وبعضهم يرويه حديثا.
(٤) الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه ٢/٢٠٤.
(٥) ابن عاشور أصول النظام الاجتماعى في الإسلام: ٢٦-٢٧.
(٦) ابن جرير الطبرى. جامع البيان في تفسير القرآن: ١/١٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>