للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أهمية معرفة الاختلاف الفقهي:

إن معرفة الاختلاف الفقهي من شروط الاجتهاد، وكذلك الإفتاء، وفي ذلك يقول هشام بن عبد الله الرازي: من لم يعرف الاختلاف فليس بفقيه.

ويقول عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه، ويقول قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه (١) .

وإذا كان الافتراق حول العقائد في جملته شرًّا، فإنه يجب أن نقرر أن الاختلاف الفقهي في غير ما جاء به نص من الكتاب والسنة لم يكن شرًّا، بل كان دراسة عميقة لمعاني الكتاب والسنة وما يستنبط منها من أقيسة، ولم يكن افتراقًا بل كان خلافًا في النظر، وكان يستعين كل فقيه بأحسن ما وصل إليه الفقيه الآخر، ويوافقه أو يخالفه (٢) . وكان عمر بن عبد العزيز يسره اختلاف الصحابة في الفروع، ويقول: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم لكان في سعة. وفي عبارة أخرى له أيضًا: ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم (٣) .

وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر: (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى نفسه في سعة، أو رأى أن خيرًا منه قد عمله) .

وفي عبارة أخرى: (أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء) . وقال يحيى بن سعيد: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.

وبالرغم من أن معظم المنقول عن العلماء يؤكد أن في الاختلاف رحمة وخيرًا، فقد روي عن بعض العلماء عكس ذلك، فعن مالك: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد. وعن المزني: ذم الله الاختلاف وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة.

وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين الاتجاهين، فبين أن الاختلاف قد يكون رحمة إذا لم يُفضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم، إذ قد يكون خفاء الحكم على المكلف رحمة لما في ظهوره من الشدة عليه. وقد يكون عذابًا، فإن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة (٤) .


(١) الموافقات للشاطبي: ٤/٦١.
(٢) المذاهب الإسلامية لأبي زهرة، ص١٢، ١٦.
(٣) الاعتصام للشاطبي: ١٣/١١، والموافقات للشاطبي: ٤/١٢٥.
(٤) مجموع فتاوى ابن تيمية: ١٤/١٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>