وبعد مناقشة مستفيضة خلصت إلى أنه فيما يختص بالمتاجرة في العملات لغرض الكسب من فروق الأسعار عن طريق المضاربة، وليس استجابة لحاجات حقيقية في التعامل، فلولي الأمر (السلطة المختصة) أن يمنع أوي قيد عمليات المتاجرة في العملات، وله أن يتدخل بكل الوسائل المتاحة في تنظيم آلياتها وتحديد الأسعار، ووضع سقوف لتحركاتها متى ما أظهرت الدراسات والوقائع أن ذلك التصرف ملائم ويحقق المصلحة ويدفع المفسدة، ويحفظ استقرار النشاط الاقتصادي ويدعم السياسات المقررة ويدعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ولا يجد ذلك إلا بالتالي:
- أن يكون الضرر الكلي الناتج عن تلك المتاجرة مؤكد الوقوع أو كثيرًا غالب، وحتى ولو كانت تلك المتاجرة تحقق مكاسب لأفراد بعينهم.
- أما إذا كان الضرر قليلاً أو نادر الوقوع فلا يلتفت إليه إذ العبرة بأصل الحق الثابت فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير.
- أن تكون المصلحة من اتباع السياسات المقيدة للمتاجرة في العملات راجحة في تقدير أهل الاختصاص والمعرفة.
ولكن أيها العلماء الأفاضل لا بد وأن اعترف أنه وبناءً على ما يحدث في واقع التعامل في العملات دوليًّا قد يصعب إن لم يستحل التعرف على نوايا المتعاملين كما أنه قد يتعذر على السلطات المختصة التحكم في مسار عمليات الصرف، إلا أنه يمكن اتخاذ الكثير من الإجراءات التي تستهدف بالأساس تقليل عمليات المتاجرة في العملات بقصد المضاربة، كما سنوضح ذلك في التوصيات اللاحقة.
الجزء الثالث من هذا المحور يتناول تأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من المتاجرة في النقود، ولقد بين الأخ الدكتور شوقي دنيا معالم هذه الوظائف، ولا أريد أن أعيد ما ذكره.
ونتحدث الآن عن حقيقة دور المضاربة في العملات فيما حدث في دول جنوب شرق آسيا. طبعًا بدأت الأزمة في تايلاند عندما بدأ هجوم المضاربين على البات، حيث أنفقت الحكومة ما يعادل أربعة وعشرين مليار دولار، ورفعت أسعار الفائدة إلى ما يزيد عن (٣٠ %) في محاولة مستميتة للدفاع عنه، إلا أنها عجزت عن حمايته، وفقد البات (٣٠ %) من قيمته، وامتدت الأزمة إلى كل من أندونيسيا والفلبين وكوريا وماليزيا، وكان أبرز مظاهرها الانخفاض الشديد في قيمة عملات تلك الدول.
إذن فالأزمة بدأت ببوادر انهيار في العملات وانتهت بانهيار كبير في أسعار عملات تلك البلدان تجاه الدولار. إلا أن ذلك الوجه البارز للأزمة يجب ألا يشغلنا عن حقيقة الأزمة، هل هي أزمة نقدية مالية أم أزمة اقتصادية هيكلية شاملة؟ فكما نعلم فإن أسعار الصرف تعتبر أداة ربط بين اقتصاد مفتوح وباقي اقتصاديات العالم، وفي نفس الوقت تلعب أسعار الصرف دورًا بارزًا في تحديد القدرة التنافسية للاقتصاد وفي وضع ميزان المدفوعات وفي معدلات التضخم والنمو الحقيقي، كما أن حركة التصحيح الاقتصادي تبدأ عادة بتعديل أسعار صرف العملة.