وإن الأخذ بالذرائع لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب خشية الوقوع في ظلم كامتناع بعض العادلين عن تولي أموال اليتامى، أو أموال الأوقاف خشية التهمة من الناس، أو خشية على أنفسهم من أن يقعوا في ظلم، ولأنه لوحظ أن بعض الناس قد يمتنع عن أمور كثيرة خشية الوقوع في الحرام، ولذلك قيد ابن العربي في كتابه أحكام القرآن بأن ما يحرم للذريعة إنما ثبت إذا كان المحرم الذي تسد ذريعته يثبت تحريمه بنص لا لقياس ولا لذريعة، فلا يصح أن يترك تولي مال اليتيم خشية الظلم. ولذا قال القرطبي: فإن قيل يلزم ترك مالك أصله في التهمة وسد الذريعة إذا جوز له الشراء من يتيمة، فالجواب أن ذلك لا يلزم وإنما يكون ذريعة فيما يؤدي من الأفعال المحظورة إلى محظورات منصوص عليها وأما هاهنا فقد أذن الله تعالى في صورة المخالطة ووكل المخالفين في ذلك إلى أمانته يقول تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}[البقرة: ٢٢٠] . وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال أنه يتذرع إلى محظور فيمتنع، كما جعل الله النساء مؤتمنات في فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن ذلك من الأحكام ويرتبط به من الحل والحرمة وإن جاز أن يكذبن.
وبناء على ما تقدم فإنه يتقرر هنا أصلان:
الأول: أن الذرائع يؤخذ بها إذا كانت توصل إلى فساد منصوص عليه، وبالقياس إذا كانت توصل إلى حلال منصوص عليه. فسدها في الأول يكون لمفسدة عرفت بنص، وفتحها في الثاني لمصلحة عرفت بنص. ووجه ذلك أن المصلحة أو المفسدة المعرفة بنص مقطوع بها، فتكون الذرائع لخدمة النص ولكن هذا الأصل لم يتصد لذكره إلا ابن العربي، وكتب الأصول المالكية لم تتصد لذلك وظاهرها أنها لا تشترط هذا الشرط.
الأصل الثاني: إن الأمور التي تتصل في أحكامهم الشرعية بالأمانات لا تمتنع لظهور الخيانة أحيانًا، فإن المضار التي تترتب على سدها أكثر المضار التي تدفع بتركها، فلو تركت الولاية على اليتيم سدا للذريعة لأدى ذلك إلى ضياع اليتامى، ولو ردت الشهادات سدا لذريعة الكذب لضاعت الحقوق (١) .