وأما الوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه فالعلاقة فيها بين السبب والمسبب لا تتخلف تحقيقًا، مثل إبرام عقد البيع المستلزم لإثبات جملة من الأحكام المرتبة عليه: من ثبوت التملك وحق التصرف والانتفاع وغيرها من منافع الملكية وحقوقها، ومن حق البائع في الثمن لا تبرأ منه ذمة المشتري إلا بإذنه للبائع. فالمالكية لا يفرقون بين سد الذرائع وتحريم الوسائل بل هما شيء واحد عندهم.
وفرق الشافعية، فقالوا بتحريم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه، والتي تفضي إلى مفسدة أو مضرة بصورة قطعية لا تحتمل التخلف، ولم يقولوا بسد الذرائع كما قال بها المالكية.
وحاول ابن الرفعة أن يسند للشافعي القول بسد الذرائع، وذلك من خلال ما جاء في باب "إحياء الموات" من كتاب الأم حيث ذكر النهي عن منع الماء المفضي إلى منع الكلأ وأنه يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل: وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله.
ورد تقي الدين ابن السبكي كلام ابن الرفعة معتبرا أن ما عده ابن الرفعة من سد الذرائع في مثال منع الماء، إنما أراد الشافعي منه تحريم الوسائل، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، وذلك أن منع الماء مستلزم عادة منع الكلإ الذي هو حرام، ويضيف التقي السبكي قائلا: ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصا ومنعه الطعام والشراب فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء.
ويقول التقي السبكي محددا موقف الشافعي: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، والنزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها، ذلك أن الذريعة ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعند المالكية.
والثاني: ما يقطع بأنها لا توصل، ولكن اختلطت بما يوصل، فكان من الاحتياط سد الباب، وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه. يقول ابن السبكي: وهذا غلو في القول بسد الذرائع.
والثالث: ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب تتفاوت بالقوة والضعف، ويختلف الترجيح عند المالكية بسبب تفاوتها.
ثم قال: ونحن نخالفهم جميعا إلا في القسم الأول، لانضباطه وقيام الدليل عليه.
ثم قال: أما موافقتهم في القسم الأول فواضحة، بل نحن نقول في الواجبات بنظيره، ألا ترانا نقول: ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبطريق الأولى أن نحرم ما يوقع في الحرام.
وأما مخالفتهم في القسم الثاني: فكذلك، وما أظن غير المالكية يذهب إليه، ولا أظنهم يتفقون عليه وأما القسم الثالث: فلعله الذي حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي فيه بما ذكره من النص، وقد عرف ما فيه (١) . والحاصل أن الشافعية هم الذين يفرقون بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، وذلك بناء على ما اختاروه هم ومعهم الحنفية وأصحاب المذهب الظاهري من إنكار أن تكون الذرائع أصلا تشريعيا كما يراه الفريق المقابل الذي يضم المالكية والحنابلة والإمامية.
(١) انظر: التاج السبكي. الأشباه والنظائر: ١، ١١٩-١٢١ط. دار الكتب العلمية، بيروت ١٤١١هـ، ١٩٩١م) .