ففي أحوال التضخم، تنشط توقعات الناس حول المستقبل، ودرجة التضخم فيه، فيبدأ الناس يعرفون عدد الوحدات النقدية المستحقة في المستقبل مقابل قيمة حاضرة، فيرتفع الفارق، أو الزيادة في السعر المقابلة للزمن، في عقود البيع الآجل، وسائر عقود الديون الآجلة، مثل مؤخر المهر، ثم يعرضون عن استخدام النقد الخاضع للتضخم في عقودهم الآجلة، فيستعملون الذهب، أو عملة أجنبية يشعرون أنها أكثر استقرارًا، أو سلعة من السلع، أو مجموعة سلع، ثم تزداد هذه الممارسات، وتكثر، وتستعمل هذه المقاييس للقيمة في العقود القصيرة الأجل، حتى يصل الأمر إلى استعمال العملة الأجنبية في البيوع والعقود اليومية، وإلى عدم استعمال النقد الوطني كمستودع للقيمة، فيدخر الناس العملات الأجنبية، والذهب، والسلع العينية. كما يشاهد فعلًا في بعض البلدان الإسلامية وغير الإسلامية.
ولا شك أن دقة وسرعة ردود الأفعال هذه تقومان على فرضية ضمنية، هي فرضية الرشد الاقتصادي، وهي فرضية ليست سهلة الحصول في الواقع، بجميع متطلباتها، وبخاصة توفر المعلومات الكاملة، وآنية ردة الفعل، وهي كذلك صعبة التعميم، بدرجة واحدة، على جميع الناس. فيبقى الكثير من "المخدوعين اقتصاديًّا" قليلي الإحساس بالخسارة الناجمة عن التضخم، فلا يعزفون عن استعمال النقد ذي القوة الشرائية المتدهورة، كما أن هناك أحوال التضخم غير المتوقع، الذي يقع كالجائحة تعم الجميع في بلد معين، كما يحصل في بعض الدولة نتيجة لحرب، أو حصار اقتصادي، أو غليان اجتماعي، أو اضطراب سياسي.
وفي هذه الصورة الثامنة، ينبغي لنا أن نميز بين أنواع التضخم. فالتضخم الناشئ عن عوامل السوق بتفاعلها الطبيعي، دون أن يكون متأثرًا بتدخل من الحكومة، يمكن أن يعامل معاملة التغير في أسعار الذهب والفضة، ومثل هذا التضخم لا يحتمل أن يكون كبيرًا ولا عاليًا، وكثيرًا ما يكون لردود فعل العوامل السوقية نفسها دور كبير في كبح جماحه، والتقليل من نسبته.
أم التضخم الناشئ عن ممارسة السلطة الحكومية على النقد، سواء بطباعة الورق النقدي، أو بترك البنوك تصدر النقد الائتماني، أو بغير ذلك من الأعمال السلطوية فشيء آخر، قد يختلف اختلافًا كثيرًا عن النوع الأول، في ارتفاع معدلاته، وتسارع تأثيره على القيم، والحقوق، والالتزامات الآجلة، وبخاصة مع النظر إلى المعدل التراكمي لهذا النوع من التضخم، وهذا مما يستدعي نظرًا فقهيًّا جديدًا، للكشف عن موقف الشريعة منه. ولعل في إثارة النقاط التالية ما يعين على هذا النظر:
١- هل نميز بين البيوع، أو المعاوضات عمومًا، وغيرها من المعاملات كالقروض مثلًا؟
ذلك لأن البيع بثمن آجل، يمكن فيه قبول فرضية الرشد، إذا كان التضخم متوقعًا، يمكن الافتراض بأن البائع قد أدخل عنصر التضخم المتوقع، ضمن ربحه، عند تحديد الثمن الآجل، وهذه أمر مشاهد ملحوظ، في البلاد التي يعم فيها التضخم، وقد يقال مثل ذلك، عن مؤجل المهر، والإجارة الطويلة، وغيرهما من المعاوضات (على التجوز بقول المالكية: إن عقد الزواج من المعاوضات) . ويمكن عندئذ التجاوز عن الفرق بين المعدل المتوقع للتضخم عند العقد، والمعدل الفعلي عند السداد، باعتبار ذلك من المخاطر، التي يتحملها المتعاملون في المعاوضات.