للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد هذا العرض والتأصيل، يظهر لنا رجحان ما ذهبنا إليه، وهو اعتبار القيمة يوم العقد والقبض، وهو أدنى إلى تحقيق العدالة وأقرب إلى القسط، وأيسر؛ وذلك لأن المقرض، أو البائع قد خرج المال من عهدته في ذلك الوقت، ودخل في ذمة المدين والمشتري، وحينئذ يكون له الحق في أن يشتري به شيئاً آخر، ولذلك قال أحد الفلاحين المصريين بفطرته: "دفعت لك ثمن جاموسة، فرجِّع إلي ما أشتري به مثلها ويكفي أنك استفدت به كل هذا الوقت" قال ذلك عندما جاء إليه شخص من أقربائه وطلب منه ديناً، فباع الفلاح جاموسته بمبلغ ودفع إليه بالكامل، ثم بعد عشر سنوات جاء الرجل، ورد عليه المبلغ الذي ما كان يشتري به الآن ربع جاموسة. فأنطقته فطرته السليمة هذا القول. (١)

حل آخر:

بالإضافة إلى هذا الحل الذي ذكرناه، فإنه يمكن للمتعاقد، الذي تثبت له نقود في ذمة الآخر آجلاً أن يشترط أن يكون الرد بما يساويه من أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلاً عشرة آلاف جنيه قرضاً لخالد، أو أن يبيع له أرضاً بها، ثم يقدروها بما يساويها من سلع أساسية، ليعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع، فيأخذ الدائن حقه بدون وكس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد سواء كان قرضاً، أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي ٨٨٠ وحدة شرائية، فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة بغض النظر عما إذا كان مبلغ الدين عند السداد له هذه القيمة، أو أقل أو أكثر. (٢)

وهذا الشرط ليس فيه –حسب نظري- أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلك ليس شرطاً جر منفعة للدائن، بل هو يحقق العدالة للطرفين، وليس ممنوعاً في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة –إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا: إنها قيمية، فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد.

وهذا الشرط مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه بدون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضماناً له من مخاطر الطريق، وهو ما يسمى بالسفتجة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإسلام: "والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم، ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم" (٣) والشرط الذي معنا ليس فيه غرر، لا يؤدي إلى جهالة، ولا ربا، ولا منازعة، بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها، في وقت أصبحت التقلبات الكبيرة سمة عصرنا، فحينئذ يكون كل واحد يعرف ما له وما عليه، بالإضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإباحة عند الجمهور الفقهاء. (٤)


(١) حكى لنا هذه القصة أستاذنا الدكتور القرضاوي (حفظه الله) .
(٢) د. شوقي دنيا: بحثه السابق ص (٧٠) وما بعدها.
(٣) مجموع الفتاوى (٢٩/٤٥٥-٤٥٦)
(٤) يراجع: مبدأ الرضا في العقود، ومصادره (٢/١١٨٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>