للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على أن ما نحن بصدده هي حالة (الاستثمار) بمعناه العرفي الشائع، وهو تنمية المال ولو كان كثيراً وفيراً يسد حاجة الإنسان القائمة والمتوقعة على المدى المعتاد للناس أخذه بالاعتبار. فهذا الاستثمار حكمه (الإباحة) التي هي التخيير بين الفعل والترك، أو (الندب) الذي هو الطلب على غير وجه الإلزام، بل لمجرد تحصيل الأجر وتحقيق الرغائب وليس لدرء الوزر (١) وسواء قيل بالإباحة أو الندب فهما درجتان مغايرتان لدرجة (الوجوب) ، وإن كان الحكم بالندب هو الغالب بحسب النصوص الداعية للإنفاق لأن دوامه –كما سبقت الإشارة- لا يحصل إلا باستثمار أصل المال.

وما أوردته هو من المقررات الشرعية الكثيرة الدوران في أكثر من باب من أبواب الفقه، ولا سيما باب النفقات، وباب الزكاة، فضلاً عن أبواب المعاملات المالية التي هي صيغ الاستثمار، ويرتبط حكم مزاولتها بحكم الاستثمار شرعاً، إذا يتفق الفقهاء على أن الحكم الأصلي لكل من البيع والإجارة وأنواع الشركات هو الإباحة، ولم يقل أحد منهم: إنه الوجوب مطلقاً، أو الوجوب التخييري لمن توافرت لديه أسبابها، أي يجب الإقدام على إحدى هذه الصيغ لا على التعيين، كما هو الشأن في الواجبات التخييرية المعروفة عند الكلام عن الواجب من الأحكام التكليفية.

ومن المعهود في التشريع أن ما تتوافر لرعايته دوافع فطرية (كحب المال والحرص على ازدياده) يكون في عداد المباحات، ولا يتعلق به الوجوب إلا في حالات طارئة يخرج فيها الإنسان عن طبعه.

مناقشة القول بالوجوب استدلالاً بتحريم الاكتناز:

وأما احتجاج معظم الاقتصاديين بآية الاكتناز وما أطالوا به في شأنها فإننا لا نجد له أي جذور في مدونات الفقه والتفسير والحديث، لما تواردت عليه الأفهام من أن الوعيد فيها هو للاكتناز الذي لا يتحقق مفهومه إلا بمنع زكاة المال، استناداً بحديث: ((ما أديت زكاته فليس بكنز)) كما أن الحض على استثمار مال اليتيم هو من قبيل الطلب الترغيبي المؤدي إلى (الندب) فضلاً عن أن التصرف في حق اليتامى مختلف عن تصرف الإنسان في حر ماله، فالمرء بسبيل من التصرف في ماله بما لا حظر فيه، بخلاف من استؤمن على غيره من ناقصي الأهلية فإن عليه إحسان التصرف، ولذلك ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أن من يرى وجوب الزكاة في مال اليتيم يرى في الوقت نفسه وجوب المتاجرة فيه حتى لا تأكله الصدقة" (٢)


(١) تفسير القرطبي ٣/٤١٩؛ والأسهم والسندات من منظور إسلامي د. عبد العزيز الخياط ٩ – ١٢.
(٢) الأنشطة المصرفية وكمالها في السنة النبوية د. حسن العناني ٦٤ ومن مراجعه المحلى ٥/ ٣٠٦ والأموال لأبي عبيد ٥٤٨ وغيرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>