للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما ما يجوز الاجتهاد فيه: وهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة، أو ظن أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص قاطع ولا إجماع، كالأحكام القياسية والمصلحية، والعرفية، فهو مجال الترجيح.

وعلى العلماء أن يأخذوا بما دل عليه ظاهر النص، أو الحديث الصحيح، أو كان محققا لمصلحة تتفق مع جنس المصالح التي بنى الشرع الأحكام عليها، أو تعارف الناس عليها دون تصادم مع نص شرعي.

ولا يجوز للمفتي أو المجتهد أن يفتي برأي ضعيف أو بما يصادم الحديث الصحيح؛ لأن رائده طلب الحق والصواب، دون تأثر بعصبية مذهبية أو انتماء لمدرسة فكرية معينة، مع كون الحق يظهر في اتباع رأي آخر؛ لأن الشرع والعقل يوجبان العلم بالدليل الراجح.

قال شيخ الإسلام: عز الدين بن عبد السلام (١) : ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلد فيه، ويترك من شهد له الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جمودا على تقليد إمامه، بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالا عن مقلده.

وقال الإمام أبو شامة في خطبة: " الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ": ينبغي لمن اشتغل بالفقه ألا يقتصر على مذهب إمام معين، بل يرفع نفسه عن هذا المقام، وينظر في مذهب كل إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه، إذا كان قد أتقن علوم الاجتهاد، وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة؛ فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة (٢) .

وأكد القرافي هذا الاتجاه الصحيح في العمل بآراء المذاهب، فقال: إن الحاكم إن كان مجتهدا، فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده؛ وإن كان مقلدا، جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحا عنده، مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا. أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح، فخلاف الإجماع (٣) .


(١) قواعد الأحكام: ٢ / ١٣٥، ط الاستقامة.
(٢) الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي: ص ٦١؛ وفي معنى ذلك انظر إعلام الموقعين: ٤ / ٤١٢.
(٣) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص ٧٩، ٨٠؛ تبصرة الحكام: ١ / ٦٦؛ فتاوى الشيخ عليش: ١ / ٦٤، ٦٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>