(ك) بقيت قضية أخرى تتعلق بادعاء "بشرية القرآن" وذلك بتفسير هذه البشرية من الجانب النفسي وهو "اللاشعور" وقد حلل الأستاذ مالك بن نبي هذه المقولة وأبطلها أولًا لغموضها , وثانيًا لأنها في أولها , فاللاشعور مهما اختلف عن الشعور فهو لا يخرج عن كونه نشاطًا إنسانيًّا نفسيًّا، ولا علاقة له بالوحي، يقول:"لعبت كلمة لا شعور دورًا نظريًّا هامًّا في تفسير الظاهرة القرآنية، فإذا أردنا أن نفهم معنى هذا المصطلح في نظريات علم النفس وجدناه في منتهى الغموض، فهو لا يعني شيئًا محددًا كما تعني مثلًا المصطلحات المعروفة كالتذكر والإرادة، إن نظرية "اللاشعور" ما تزال في مرحلة نشوئها ومع ذلك فقد استخدموها لكي يفسروا لنا ـ كما يدعون ـ الظاهرة القرآنية بطريقة موضوعية، ومن الصعب علينا أن نعتقد أن هؤلاء المؤلفين قد بذلوا أقل الجهد لكي يتفهموا الموضوع، فمما لا شك فيه أن الذات الإنسانية تحتوي على مجال معين تتكون فيه الظواهر النفسية الغامضة التي لا تخضع لسلطان الشعور كالأحلام مثلًا، فهذا المجال المظلم الذي تدوي فيه بعض طوارئ الحياة النفسية الشعورية في الفرد ذو علاقة واضحة بالحالات الشعورية، فلو أردنا لأطلقنا لفظ "لا شعور" على هذا المجال المظلم، وجميع العمليات التي تتم فيه أشكال محورة خاصة لفكرة أو واقع مر الشعور، فيمتص اللاشعور هذه العناصر الشعورية ويودعها مخيلته لكي يقلبها غالبًا إلى رموز، إلى أحلام، إلى حديث نفسي، إلى إلهام، ولكن هذه الرموز تحتفظ بمعالم الفكرة أو الواقع الذي تولدت عنه، لا شك أن هذه العلاقة تتفاوت في غموضها، ولكن التحليل قد يكشف عنها، إذ من الممكن أن نجد في حلم أو كابوس الطريقة التي اتبعها "اللاشعور" في صياغة رمزه بالرجوع إلى حادث سابق تسبب فيه، فهو حساسية خاطفة، أو تذكار قاس، أو هو راجع إلى يسر الهضم أو عسره.. إلخ، فاللاشعور يعمل هنا عمل المستقبل الكهربي بالنسبة للمولد الكهربي الذي هو الشعور، وعليه ففي هذا المجال الأخير يجب أن نلتمس دائمًا مصدر العمليات النفسية التي يصفونها باللاشعورية، وعندما يتضح أن فكرة ما لا تخضع مطلقًا للذات الشعورية فمن الممكن أن نفهم من هذا أنها بالضرورة أجنبية عن هذه الذات، وأنه لا محل لها في اللاشعور"" (١) .
وهكذا يثبت الأستاذ مالك بن نبي أمرين: أولهما أن اللاشعور في الإنسان غير مستقل عن الشعور، ولكنه ترجمة محورة له ورموزه معبرة عنه فهو بهذا عملية نفسية إنسانية، وثانيهما: أن اللاشعور إذا جاء بشيء مستقل عن الشعور ولا علاقة له به كان ذلك خضوعًا وفي المستقبل فهو ليس من اللاشعور النبوي بل هو بالضرورة أجنبي عن هذه الذات، ولا مجال لذلك إلا أن يكون القرآن وحيًا وهو المطلوب.