للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الشبه التي يثيرونها حول الشريعة ادعاؤهم بأنها من آراء الفقهاء وابتكاراتهم:

ويحاولون أن يقنعوا الناس بأن ما تتمتع به الشريعة الإسلامية من مبادئ ونظريات سامية ومتميزة لا يرجع إلى كونها من عند الله تعالى، وإنما يرجع إلى عبقرية علماء المسلمين وجودة تفكيرهم واتساع أفقهم، وهذه الدعوى خطيرة؛ لأنه يقصد منها سلب قدسية الشريعة، وإقناع المسلمين بعدم وجوب طاعتها، لأنها من آراء الرجال، فإذا ثبت ذلك فلكل عصر رجاله، وهم أدرى من غيرهم بمشكلات عصرهم، وأقدر على وضع حلول لهذه المشكلات نظرًا إلى اختلاف الأحداث والوقائع من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى.

وللرد على هذه الشبهة نقول: إن فقهاء الإسلام قد بذلوا مجهودًا كبيرًا في خدمة الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية، ولكن دورهم محدود يتمثل في أنهم وجدوا أمامهم شريعة غنية بالمبادئ، والنظريات فقاموا بشرح النظرية أو المبدأ، وبينوا شروط تطبيق كل منهما، وحاولوا جمع ما يدخل تحت هذه النظريات والمبادئ من جزئيات، وهم في كل هذه الاجتهادات وهذه المحاولات يقيدون أنفسهم بنصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية، فتبين خطأ من يظن أن الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية من ابتكار المسلمين، يقول الشهيد عبد القادر عودة: "إن الفقهاء لم يبتكروا نظرية المساواة المطلقة ولا نظرية الحرية الواسعة ولا نظرية العدالة الشاملة، وإنما عرفها الفقهاء من نصوص القرآن والسنة التي جاءت بها" (١) .

وقد أورد أمثلة كثيرة من المبادئ والنظريات القانونية، أخذها الفقهاء من نص القرآن كنظرية الطوارئ المسماة في عرف القانون بنظرية تغيير الظروف، فإن فقهاء الشريعة قد أخذوا هذه النظرية , من هذه النصوص القرآنية قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . (٢) .

وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (٣) .

وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (٤) .

وكأخذهم نظرية إعفاء المكره والمضطر من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (٥) .

وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (٦) .

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (٧) .

وليس الفقهاء هم الذين ابتكروا نظرية إعفاء الصغير والمجنون والنائم من العقاب، وإنما أخذوا ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يصحو وعن المجنون حتى يفيق)) (٨) .

ولا هم الذين فرقوا بين أحكام العمد وأحكام الخطأ وإنما أخذوا ذلك من نص القرآن , كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنا إِلاَّ خَطَئا وَمَن قَتَلَ مُؤمِنا خَطَئا فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهلِهِ....} (٩) .

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (١٠) .

وقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (١١) .

وهكذا نجد الأمثلة كثيرة جدًّا كلها تبطل الدعوى بأن مبادئ الشريعة ترجع إلى آراء الفقهاء.


(١) راجع كتابه: "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه": ص ٥٩
(٢) سورة البقرة: الآية ٢٨٦
(٣) سورة الحج: الآية ٧٨
(٤) سورة الأنعام: الآية ١١٩
(٥) سورة النحل: الآية ١٠٦
(٦) سورة البقرة: الآية ١٧٣
(٧) رواه ابن ماجه في الطلاق ١٦ بلفظ "إن الله تجاوز عن أمتي ... " الحديث
(٨) رواه البخاري في الطلاق وفي الحدود وكذلك رواه كل من أبي داود والترمذي والنسائي، والإمام أحمد، راجع مسنده: ١/ ١١٦ ـ ١١٨
(٩) سورة النساء: الآية ٩٢
(١٠) سورة البقرة: الآية ١٧٨
(١١) سورة الأحزاب: الآية ٥

<<  <  ج: ص:  >  >>