للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ - أن بيع الوفاء بيع جائز لازم:

وقد اختار قاضيخان هذا القول وقال: الصحيح أنه إن وقع بلفظ البيع لا يكون رهنًا ثم إن شرطا فسخه، أو تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع وعندهما هذا البيع غير لازم فالبيع فاسد، وإن ذكرا البيع بلا شرط ثم شرطاه على وجه المواعدة جاز البيع ولزم الوفاء.

ثم عرض قاضيخان إلى حجة هذا القول فقال: وقد يلزم الوعد لحاجة الناس فرارًا من الربا فبلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكروم، وبخارى الإجارة الطويلة ولا يكون ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء، وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه.

ويدعم ذلك ما نقل عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى: أن البيع لا يكون تلجئة حتى ينص عليها في العقد وهي والوفاء واحد (١) كما يدعمه أيضًا ما ذكره الزيلعي من أن الوفاء بالمواعيد لازم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((العدة دين)) (٢) .

وأما إن شرطا الوفاء نصًّا قبل العقد أو أضمراه بقلوبهم عند العقود فكمن ذكرا البيع بلا شرط، ثم شرطاه على وجه المواعدة بناء على أن العبرة في الشرط المفسد مقارنته لعقد ذكرًا باللسان لا أن يتقدم ذكره عليه أو أن يضمر في الجنان ويوضح ذلك أن تزوج المرأة بنية تطليقها أثر الوطء نكاح صحيح لأن النظر فيه منصب على شكله ولفظه لا على المقصود والمراد منه وإلا لقلنا بأنه نكاح متعة وفاسد لا يجوز. وعلى ضوء وجهة النظر هذه أفتى النسفي مستفتيًا قال له: بعت حانوتًا بأربعمائة ثم طلب المشتري إعادة المبيع ورد الثمن وهو يقول: بعتني وفاء، وأنا أقول بعتك باتًّا؟ فأجاب: إن القول قولك. وقال السائل لو حلفني على ذلك، هل ينبغي أن أحلف وكان نيتي أن آخذ الحانوت منه وأرد الثمن إليه بعد زمان وكان قصد المشتري ذلك أيضًا كما هو المعروف إلا أني لا أقدر اليوم على أن أنقد الثمن؟

فأجاب: إنما ذكر ذلك قبل العقد، وما كان في القلب عند العقد لا عبرة لذلك لو لم يذكر عند العقد سوى الإيجاب والقبول، ولك أن تحلف أنك بعته بيعًا باتًّا (٣) .

والملاحظ هنا انبناء الأحكام على اللفظ والشكل دون نظر إلى النية ومقصد الشرع منها، وقاعدة الشريعة - كما قال العلامة ابن القيم - التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات (٤) .


(١) انظر البحر الرائق، لابن نجيم: ٦/٨، طبعة أولى بالمطبعة العلمية.
(٢) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: ٥/١٨٤.
(٣) ابن سماوة، جامع الفصولين: ١/١٣٥، ١٣٦.
(٤) إعلام الموقعين: ٣/١٠٧، ١٠٨، تحقيق محيي الدين عبد الحميد طبعة صيدا، بيروت ١٤٠٧ - ١٩٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>