للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا وإن المساجد وإن خلت زمنًا من الطلاب، والمدارس وإن أقفرت من الشيوخ ورواد المعرفة فإنها قد تهيأت كلها من جديد وانضافت إليها مثيلاتها في تونس العاصمة وبمختلف مدن الإيالة. وعادت الحياة الفكرية شيئًا فشيئًا - كما قدمنا - إلى الظهور على أيدي ثلة من الأئمة الفضلاء والشيوخ العلماء والحكام الوجهاء. فكان الناس بدافع تلقائي سببه الحرمان أو ما ورثوه عن آبائهم من تقدير ومهابة للعلم وأهله، يريدون الاختلاط بأولئك النفر تحقيقًا لمنازلهم واستمرارًا لانتسابهم إلى أهل الشرف والمروءات والفضل. فكان التعظيم لهم من الخاصة والعامة، والتردد عليهم والجلوس إليهم ابتغاء الإفادة منهم والانتفاع بهم، وطلبًا لخيري الدنيا والآخرة عن طريقهم.

وكان من أعلى الناس منزلة بين أهل تونس من ارتبطوا بخدمة جامع الزيتونة، الجامع العتيق، أقدم مسجد بديارهم، كان مركزًا دينيًا للعبادة من بداية القرن الثاني، ومدرسة لتلقين علوم الدين والتبحر في فنون العلوم النقلية والعقلية (١) .

وعلم الأمير حسين بن علي تركي مدى تعلق الناس بهذا الجامع، وبما يبث به من علوم فعني به عناية فائقة وحاول أن يعيده إلى سالف عهده. وهذا ما جعل الوزير السراج يقول عنه في هذا الصدد: "فكم أحيا من مدارس دوارس، وكم أحيا من دروس بعد الاضمحلال والدروس، بحيث إن الجامع الأعظم جامع الزيتونة غاية ما بلغ فيه قبل من عدد المدرسين من الشروق إلى الغروب نحو ثمانية بين مبتدئين ومنتهين فقط. والحمد لله أنه اليوم به نيف وأربعون مدرسًا عدا ما لبعض المدرسين من مجالس مكررة في كل يوم". وهذه الإشارة من صاحب الحلل تصف الدروس النظامية لا غير التي كان الأمير يرعاها ويعين فيها من يختاره من العلماء والمدرسين ويجري عليهم عن طريق الوزير السراج المرتبات والجرايات المستحقة (٢) . والحق أن حركة العلم كانت أنشط بهذا الجامع وغيره من دور العلم بتونس في هذا الظرف بدليل إقبال الكثير من العلماء والشيوخ على التدريس والتشرف بالتصدر للإفادة به، يعتبرون ذلك واجبًا دينيًا، ويرفع من مكانتهم ويعلي من أقدارهم أن يعرفوا بهذه النسبة الشريفة ويذكروا فيمن يعد من حفظة هذا الدين القائمين عليه المبلغين لهديه، الناشرين لأنواره. ولذلك تطوعوا بالتدريس وبالوعظ ونشر المعارف الإسلامية وخاصة القرآن والفقه لما ورد من حث على ذلك. قال عقبة بن عامر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا القرآن كتاب الله وتعاهدوه وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتًا من المخاض في العقل" (٣) . وحدث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه في الدين" (٤) .


(١) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، جامع الزيتونة: ص٢٨٣ - ٣٠٨.
(٢) السراج، الحلل السندسية: ٣/١٣٢ - ١٣٣
(٣) أخرجه الدارمي في سننه: ٢/٤٣٩؛ النسائي في السنن الكبرى.
(٤) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، ومسلم في كتاب الزكاة، وابن ماجه في باب فضل العلماء، والدارمي في كتاب العلم، باب الاقتداء بالعلماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>