للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معنى الاستصناع، هل هو مواعدة أم بيع؟

اختلف مشايخ أو فقهاء الحنفية في تخريج الاستصناع، أهو بيع أو وعد بالبيع، أو إجارة، وإذا كان بيعًا هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟

فقال الحاكم الشهيد المروزي والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور: الاستصناع مواعدة، وإنما ينعقد بيعًا بالتعاطي عند الفراغ من العمل، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يؤتى به، ويرجع عنه، ولا تلزم المعاملة.

والصحيح الراجح في المذهب الحنفي: أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا لعمل الصانع، فهو ليس وعدًا ببيع ولا إجارة على العمل، فلو أتى الصانع بما لم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة، جاز ذلك والدليل أن محمد بن الحسن رحمه الله ذكر في الاستصناع القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل، ولو كان مواعدة جاز في الكل، وسماه شراء فقال: إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كان العقد مواعدة لم يملكها، وإثبات الخيار لكل من العاقدين لا يدل على أنه غير بيع، بدليل أنه في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر أي مبيعه، كان لكل منهما الخيار وثبوت خيار الرؤية للمستصنع من خصائص البيوع، فدل على أن جوازه جواز البياعات، لا جواز العدات، ويترتب على كونه بيعًا أنه يجبر الصانع على عمله، ولا يرجع الآمر المستصنع عنه، ولو كان عدة لما لزم.

وقال أبو سعيد البرادعي: المعقود عليه هو العمل أو الصنع، لأن الاستصناع: طلب الصنع، وهو العمل والراجح في الاجتهاد الحنفي أن المعقود عليه هو العين المستصنعة دون العمل، فلو جاء الصانع بالمطلوب بما يوافق الأوصاف المشروطة ورضي به المستصنع، جاز العقد، سواء أكان من صنعة غيره أم من صنعته قبل العقد، ولو كان المبيع العمل نفسه لما صح ذلك قال الكاساني: ولو كان شرط العمل من نفس العقد، لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح القول بأن المعقود عليه هو المبيع الذي شرط فيه العمل، لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل، لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمَّى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (١) .


(١) فتح القدير مع العناية: ٥/٣٥٥؛ والبدائع: ٥/٢، ٢٠٩؛ والدر المختار ورد المحتار: ٤/٢٢٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>