للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء - مع وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقا، لكن اعتقادا ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق الخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط. فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء. فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (١)، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه. فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده، لا باطنا ولا ظاهرا، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين، شبيها بالضالين.

فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض: فهو من يعلم الحق ويعاند عنه. وثم قسم آخر- وهم غالب الناس- وهو أن يكون له هوى،


(١) سورة النجم الآية ٢٣