للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

{فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى} (١) بل ذلك له معنى والنسيان المثبت له معنى آخر فالنسيان المثبت في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (٢) هو تركه إياهم في ضلالهم وإعراضه عنهم سبحانه لتركهم أوامره وإعراضهم عن دينه لنفاقهم وتكذيبهم. والنسيان المنفي عن الله سبحانه هو النسيان الذي بمعنى الذهول والغفلة، فالله سبحانه منزه عن ذلك لكمال علمه وكمال بصيرته بأحوال عباده وإحاطته بكل شئونهم فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا ينسى ولا يغفل تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وبذلك يعلم أن تفسير النسيان بالترك في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (٣) الآية، من سورة التوبة ليس من باب التأويل ولكنه من باب تفسير النسيان في هذا المقام بمعناه اللغوي؛ لأن كلمة النسيان مشتركة يختلف معناها بحسب مواردها كما بين ذلك علماء التفسير رحمهم الله، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الآية ما نصه: {نَسُوا اللَّهَ} (٤) أي نسوا ذكر الله (فنسيهم) أي عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (٥).

وهكذا ما ذكره الله سبحانه من استهزائه بالمستهزئين، وسخريته بالساخرين، ومكره بالماكرين، وكيده للكائدين لا يحتاج إلى تأويل؛ لكونه من باب جزائهم بمثل عملهم؛ لأن السخرية منه سبحانه بالساخرين كانت بحق، وهكذا مكره بالماكرين، واستهزاؤه بالمستهزئين وكيده للكائدين كله بحق، وما كان بحق فلا نقص فيه، والله سبحانه يوصف بذلك؛ لأن ذلك وقع منه على وجه يليق بجلاله وعظمته ولا يشابه ما يقع من الخلق؛ لأن أعداءه سبحانه فعلوا هذه الأفعال معاندة للحق وكفرا به وإنكارا له فعاملهم سبحانه بمثل ما فعلوه على وجه لا يشابه فيه أفعالهم ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، ومن كيده لهم ومكره بهم وسخريته بهم واستهزائه بهم إمهالهم وإنظارهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة، ومن ذلك ما يظهر للمنافقين يوم القيامة من إظهاره لهم بعض النور ثم سلبهم إياه كما قال عز وجل في سورة الحديد


(١) سورة طه الآية ٥٢
(٢) سورة التوبة الآية ٦٧
(٣) سورة التوبة الآية ٦٧
(٤) سورة التوبة الآية ٦٧
(٥) سورة الجاثية الآية ٣٤