عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ بِالْإِحْيَاءِ، وَتَحْصِيلِ التَّشَفِّي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] ، وَكَذَا مَنْفَعَةُ التَّشَفِّي رَاجِعَةٌ إلَى نَفْسِهِ، وَلِلْأَبِ، وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا مَلَكَ إنْكَاحَهُ دُونَ الْوَصِيِّ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَك الْأَمْوَالِ لِشَبَهِهِ بِالْأَمْوَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بَيْنَ طَرَفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ طَرَفِ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى مَعَ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَنْفُسِ، وَيُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي الْحُرِّ كَمَا يُسْتَوْفَى فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ، وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِيهِ، وَيُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي الْأَطْرَافِ، كَمَا يُقْضَى بِهِ فِي الْأَمْوَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُقْضَى بِهِ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ، وَالْمَآلِ فَيَلِي التَّصَرُّفَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيَمْلِكُ الْأَبُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الِاسْتِيفَاءَ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَا الْوَصِيُّ يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَكَذَا الصُّلْحُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ، وَهَلْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَمْلِكُ، وَكَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ ﵀ فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَبَيْنَ الصُّلْحِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ بِتَحْصِيلِ الْحَيَاةِ، وَالتَّشَفِّي، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، فَأَمَّا الصُّلْحُ فَتَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الصُّلْحِ أَنَّ الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْقِصَاصِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْقِصَاصَ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ؟ وَلَوْ صَالَحَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ، وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالْحَطُّ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَطَّ نُقْصَانٌ مُتَحَقِّقٌ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ فَالنُّقْصَانُ عَنْهُ مُتَحَقِّقٌ وَإِنْ قَلَّ وَالنُّقْصَانُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ لِاخْتِلَافِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ الْعِوَضُ لَا يَتَحَقَّقُ النُّقْصَانُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُصَالِحُ عَنْ الصَّغِيرِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا صُلْحُهُ نَافِذٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ نَفَاذُ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَفَاذُ تَصَرُّفِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَصُلْحُهَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا إذَا الْتَحَقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ بَطَلَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ كَصُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي حَقِّهَا بِالْتِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ.
[فَصْلٌ فِي الشَّرَائِطِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ عَلَيْهِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ.
فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالًا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ فِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَمَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبِيَاعَاتِ لَا يَصْلُحُ بَدَلَ الصُّلْحِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَبْدٍ، فَإِذَا هُوَ حُرٌّ؛ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، أَوْ مَنْفَعَةً لَيْسَتْ بِعَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَاضِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعَى لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ (إمَّا) أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَاسْتِحْقَاقًا كَالْعُرُوضِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْعَقَارِ مِنْ الْأَرْضَيْنِ وَالدُّورِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَكِيلِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ سِوَى الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ وَالْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَيْسَ بِعَيْنٍ، وَلَا دَيْنٍ، وَلَا مَنْفَعَةٍ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً وَالصُّلْحُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ عَنْ إنْكَارِهِ، أَوْ عَنْ سُكُوتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا فَصَالَحَ مِنْهَا عَنْ إقْرَارٍ يَجُوزُ سَوَاءً كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ إلَّا الْحَيَوَانُ، وَإِلَّا الثِّيَابُ إلَّا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute