[فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُ الْإِعْتَاقِ]
فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُهُ فَالْمُظْهِرُ لَهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا.
الْإِقْرَارُ، وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَظْهَرُ بِهِ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا فَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَلَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ تَقْيِيدِهِ فِي حَقِّهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ: فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تُقْبَلُ عَلَى عِتْقِ الْمَمْلُوكِ إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ الْعِتْقَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ، وَالْمَوْلَى أَيْضًا مُنْكِرٌ فَهَلْ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ؟ فَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ جَارِيَةً تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُقْبَلُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعَاوِيهِمْ كَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ ﷿ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى إعْتَاقِ الْإِنْسَانِ أَمَتَهُ وَتَطْلِيقِهِ امْرَأَتَهُ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ ﷿ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ، إلَّا السَّرِقَةَ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهَا الدَّعْوَى لِتَحْقِيقِ السَّبَبِ، إذْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا بِدُونِ الدَّعْوَى؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ فَنَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً، أَمَّا الْبِنَاءُ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمَ الِاسْتِرْقَاقِ وَحُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا رَجُلًا بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ» وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ ﷿ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَكَمَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْعَبْدِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْلَى بِاسْتِيلَادِ جَارِيَتِهِ وَهُمَا مُنْكِرَانِ، وَكَذَا التَّنَاقُضُ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ عَبْدٌ لِإِنْسَانٍ: اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدُ فُلَانٍ، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُ.
وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطًا لَكَانَ التَّنَاقُضُ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ تَنْدَفِعُ بِهَا يَدُ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ عَنْهُ، وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ إذْ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا مَقْصُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِانْتِفَائِهَا مَقْصُودًا بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَكَذَا التَّحْرِيرُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ، وَالْحُرِّيَّةُ فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةُ تُنْبِئُ عَنْ خُلُوصِ نَفْسِ الْعَبْدِ لَهُ عَنْ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ وَذَلِكَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مَقْصُودًا وَحَقُّ الْإِنْسَانِ مَا يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الْعَبْدِ فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إذَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَانَ الْعَبْدُ مَشْهُودًا لَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ فَقَدْ كَذَّبَ شُهُودَهُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ إذَا كَذَّبَ شُهُودَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّ إنْكَارَ الْمَشْهُودِ لَهُ حَقُّهُ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ يُوجِبُ تُهْمَةً فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَتَبَادَرَ إلَى الدَّعْوَى وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ، فَنَقُولُ: الْإِعْتَاقُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ وَالْخُلُوصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ حَقُّهُ، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ بِالْإِعْتَاقِ حُرِّمَ الِاسْتِرْقَاقُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ ﷿ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِلْعِبَادِ يَحْرُمُ إبْطَالُهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ إبْطَالِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي الْعِتْقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ فَدَارَتْ الشَّهَادَةُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا تُقْبَلُ مَعَ الشَّكِّ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَقْذُوفِ، وَإِنْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهٍ وَحَقَّ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ، كَذَا هَهُنَا.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ، فَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَثَمَّةَ هَكَذَا نَقُولُ: إنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْعِتْقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute