الْفَصْلُ الثَّالِثُ
٦٢٨٧ - عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا إِنَّمَا مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْغَيْثِ لَا يُدْرَى آخِرُهُ خَيْرٌ أَمْ أَوَّلُهُ أَوْ كَحَدِيقَةٍ أُطْعِمَ مِنْهَا فَوْجٌ عَامًا ثُمَّ أُطْعِمَ مِنْهَا فَوْجٌ عَامًا لَعَلَّ آخِرَهَا فَوْجًا أَنْ يَكُونَ أَعْرَضَهَا وَأَعْمَقَهَا عُمْقًا وَأَحْسَنَهَا حُسْنًا كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا وَالْمَهْدِيُّ وَسَطُهَا وَالْمَسِيحُ آخِرُهَا وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ فَيْجٌ أَعْوَجُ لَيْسُوا مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُمْ» . رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
٦٢٨٧ - (عَنْ جَعْفَرٍ) ، أَيِ الصَّادِقِ (عَنْ أَبِيهِ) ، أَيْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ (عَنْ جَدِّهِ) ، أَيْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذَا السَّنَدِ سِلْسِلَةَ الذَّهَبِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْشِرُوا ") : مِنَ الْإِبْشَارِ، فَفِي الْقَامُوسِ: أَبْشَرَ فَرِحَ، وَمِنْهُ أَبْشِرْ بِخَيْرٍ (" وَأَبْشِرُوا ") ، كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ أَحَدُهُمُا لِلدُّنْيَا وَالْآخَرُ لِلْأُخْرَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بِمَعْنَى بَشِّرُوا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (" إِنَّمَا مَثَلُ أُمَّتِي ") : أَيْ أَفْرَادُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ (" مَثَلُ الْغَيْثِ ") ، أَيْ مَثَلُ أَنْوَاعِ الْمَطَرِ فِي حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ (" لَا يُدْرَى آخِرُهُ خَيْرٌ أَمْ أَوَّلُهُ ") ؟ وَلَعَلَّ عَكْسُ التَّرْتِيبِ هُنَا لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ (" أَوْ كَحَدِيقَةٍ ") : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوِ التَّخْيِيرِ، وَالْمَعْنَى كَمَثَلِ بُسْتَانٍ ذِي أَشْجَارٍ ذَاتِ أَثْمَارٍ شَبَّهَ بِهِ الدِّينَ بِاعْتِبَارِ شَرَائِعِهِ وَأَرْكَانِهِ وَشُعَبِهِ وَأَغْصَانِهِ (" أُطْعِمَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ انْتَفَعَ (مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ بَعْضِهَا (" فَوْجٌ ") ، أَيْ: جَمْعٌ (" عَامًا ") ، أَيْ سَنَةً (ثُمَّ أُطْعِمَ مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ بَعْضِهَا الْآخَرِ (" فَوْجٌ عَامًا، لَعَلَّ آخِرَهَا فَوْجًا ") : مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ (" أَيْ يَكُونُ ") ، أَيْ: آخِرُهَا (" أَعْرَضَهَا عَرْضًا وَأَعْمَقَهَا عُمْقًا، وَأَحْسَنَهَا حُسْنًا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ يَكُونُ، وَجَوَّزَ الطِّيبِيُّ رَفْعَهَا كَمَا سَيَأْتِي لَكِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ (" كَيْفَ تَهْلَكُ أُمَّةٌ ") ، أَيْ: بِالْكُلِّيَّةِ (" أَنَا أَوَّلُهَا وَالْمَهْدِيُّ وَسَطُهَا، بِفَتْحِ السِّينِ وَيُسَكَّنُ (" وَالْمَسِيحُ ") ، أَيْ: عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (" آخِرُهَا ") ، أَيْ آخِرُ الْأُمَّةِ (" وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ ") ، أَيْ: بَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِهَا وَأَوْسَطِهَا الْمُتَّصِلِ بِآخِرِهَا (" فَيْجٌ ") : بِفَتْحِ فَاءٍ وَسُكُونِ يَاءٍ فَجِيمٍ أَيْ فَوْجٍ (أَعْوَجٌ) : وَأُفْرِدَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْفَوْجِ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: الْفَيْجُ الْجَمَاعَةُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ فَيُجْمَعُ عَلَى فُيُوجٍ وَأَفْيَاجٍ كَبُيُوتٍ وَأَبْيَاتٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ فَيْجٍ فَيِّجٌ بِالتَّشْدِيدِ لَكِنَّهُ خُفِّفَ كَمَا قِيلَ فِي هَيِّنٍ هَيْنٌ (" لَيْسُوا ") ، أَيْ: ذَلِكَ الْفَوْجُ وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى (" مِنِّي ") ، أَيْ: مُتَّصِلًا بِي وَمُتَّبِعًا لِي وَمِنْ أَتْبَاعِي وَأَحْبَابِي (" وَلَا أَنَا مِنْهُمْ ") . بَلْ أَنَا مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَغَيْرُ رَاضٍ عَنْهُمْ بِفِسْقِهِمْ هَذَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: أَوْ حَدِيقَةٌ أَوْ هَذَا مَثَلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: ١٩] لِلتَّسَاوِي فِي غَيْرِ الشَّكِّ، كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ يُرِيدُ أَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي اسْتِصْوَابِ أَنْ يُجَالَسَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ كَيْفِيَّةَ صِفَةِ أُمَّتِي مُشَبَّهَةٌ بِكَيْفِيَّةِ الْمَطَرِ وَالْحَدِيقَةِ، وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِوَجْهِ التَّمْثِيلِ قِيَامُهَا مِثْلُهَا فَأَنْتَ مُصِيبٌ فِي تَمْثِيلِهَا بِهِمَا جَمِيعًا.
فَإِنْ قُلْتَ، أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّمْثِيلَيْنِ؟ قُلْتُ: شُبِّهَتِ الْأُمَّةُ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ بِالْمَطَرِ فِي نَفْعِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَفِي الثَّانِي بِالِاسْتِنْفَاعِ مِنْ عِلْمِ الرَّسُولِ وَهُدَاهُ فِي إِنْبَاتِهِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَحُصُولَ الْأَخَّاذَاتِ، ثُمَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ مِنْهُمَا بِالرَّعْيِ وَالسَّقْيِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْفَوْجِ أَيْ: أُطْعِمَ مِنَ الْحَدِيقَةِ عَامًا، وَالْحَدِيقَةُ كُلُّ مَا أَحَاطَ بِهِ الْبِنَاءُ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَغَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرُ لَعَلَّ وَأُدْخِلَ فِيهِ أَنَّ تَشْبِيهًا لِلَعَلَّ بِعَسَى، وَاسْمُ يَكُونُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى آخِرِهَا، وَأَعْرَضَهَا خَبَرُهُ، وَوَصْفُ الْأُمَّةِ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ بِاعْتِبَارِ مُلَابَسَتِهَا بِالْحَدِيقَةِ، وَأَنْ يَكُونَ أَعْرَضَهَا صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ هُوَ اسْمُ يَكُونُ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَنْ تَكُونَ الْحَدِيقَةُ أَعْرَضَهَا عَرْضًا لَهُ إِنْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَأَعْرَضَ وَأَعْمَقَ وَأَحْسَنَ جِيءَ بِهَا مُبَالَغَةً أَيْ أَبْلَغُهَا عَرْضًا وَعُمْقًا وَحُسْنًا نَحْوَ قَوْلِكَ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَوِي النُّهَى، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ: أَحْسَنَهَا حُسْنًا كَقَوْلِهِ: جَدَّ جَدُّهُ وَجُنَّ جُنُونُهُ، وَعَرْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ عَيْنٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَعْمَقَهَا عُمْقًا، وَأَنْ يَكُوْنَ اسْمَ مَعْنَى بِدَلِيلِ وَأَحْسَنَهَا حُسْنًا. (رَوَاهُ رَزِينٌ) . يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مُرْسَلًا. لِأَنَّ الْإِمَامَ زَيْنَ الْعَابِدِينَ مَعْدُودٌ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَكَذَا وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ عُدَّ مِنَ التَّابِعِينَ، لِأَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَاهُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا جَعْفَرٌ الصَّادِقُ فَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَسَمِعَ مِنْهُ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ فِي قَبْرٍ فِيهِ أَبُوهُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَجَدُّهُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute