الْفَصْلُ الثَّانِي
٦٢٨٦ - عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
٦٢٨٦ - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، أَيْ فِي حُكْمِ إِبْهَامِ إِفْرَادِ الْجِنْسِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ، أَيْ: أَوَائِلُ الْمَطَرِ أَوِ الْمَطَرُ الْأَوَّلُ خَيْرٌ، أَيْ: أَنْفَعُ أَمْ آخِرُهُ. أَيْ أَوَاخِرُهُ أَوِ الْمَطَرُ الْآخَرُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي فَضْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنَّ الْقَرْنَ الْأَوَّلَ هُمُ الْمُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَفِي الرَّابِعِ اشْتِبَاهٌ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمْ نَفْعُهُمْ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْحَقِيقَةِ. قَالَ الْقَاضِي: نَفَى تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِتَفَاوُتِ طَبَقَاتِ الْأُمَّةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَ التَّفَاوُتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: ١٨] أَيْ بِمَا لَيْسَ فِيهِنَّ كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ يَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْفَى، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ بِخَاصِّيَّةٍ وَفَضِيلَةٍ تُوجِبُ خَيْرِيَّتَهَا، كَمَا أَنَّ كُلَّ - نَوْبَةٍ مِنْ نُوَبِ الْمَطَرِ لَهَا فَائِدَةٌ فِي النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ لَا يُمْكِنُكَ إِنْكَارُهَا وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ نَفْعِهَا، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ آمَنُوا بِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَتَلَقَّوْا دَعْوَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِجَابَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْآخَرِينَ آمَنُوا بِالْغَيْبِ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَاتَّبَعُوا مَنْ قَبْلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ اجْتَهَدُوا فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ، فَالْمُتَأَخِّرُونَ بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّجْرِيدِ وَصَرَفُوا عُمُرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ فَكُلُّ ذَنْبِهِمْ مَغْفُورٌ وَسَعْيِهِمْ مَشْكُورٌ وَأَجْرِهِمْ مَرْفُوعٌ اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِوُجُودِ النَّفْعِ فِي بَعْضِ الْأَمْطَارِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَذَا لَا يُحْكَمُ بِوُجُودِ الْخَيْرِيَّةِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، إِذِ الْحَيْثِيَّاتُ مُخْتَلِفَةُ الْكَيْفِيَّاتِ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، وَمَعَ هَذَا فَالْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَإِنَّمَا هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلْمُتَأَخِّرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ بَابَ اللَّهِ مَفْتُوحٌ، وَطَلَبَ الْفَيْضِ مِنْ جَنَابِهِ مَفْسُوحٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَمْثِيلُ الْأُمَّةِ بِالْمَطَرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَا أَنَّ تَمْثِيلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَيْثَ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ، فَتَخْتَصُّ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُشَبَّهَةُ بِالْمَطَرِ بِالْعُلَمَاءِ الْكَامِلِينَ مِنْهُمْ وَالْمُكَمَّلِينَ لِغَيْرِهِمْ، فَيَسْتَدْعِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ النَّفْعُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى الْخَيْرِيَّةِ، فَالْمُرَادُ وَصْفُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً سَابِقُهَا وَلَاحِقُهَا، وَأَوَّلُهَا وَآخِرُهَا بِالْخَيْرِ، وَأَنَّهَا مُلْتَحِمَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ مَرْصُوصَةٌ بِالْبُنْيَانِ مُفَرَّغَةٌ كَالْحَلَقَةِ الَّتِي لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا، وَفِي أُسْلُوبِ هَذَا الْكَلَامِ قَوْلُ الْأَنْمَارِيَّةِ: هُمْ كَالْحَلَقَةِ الْمُفَرَّغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا، تُرِيدُ الْمُكَمَّلَةَ، وَيَلْمَحُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنِ الْخِيَارَ مِنَ الْقَبَائِلِ وَاحِدٌ ... وَبَنُو حَنِيفَةَ كُلُّهُمْ أَخْيَارُ
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ فِي الْخَيْرِيَّةِ، بِحَيْثُ أُبْهِمَ أَمْرُهَا فِيهَا وَارْتَفَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ سَوْقِ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
تَشَابَهَ يَوْمَاهُ عَلَيْنَا فَأَشْكَلَا ... فَمَا نَحْنُ نَدْرِي أَيَّ يَوْمِهِ أَفْضَلُ
أَيَوْمُ بَدَاءِ الْعُمُرِ أَمْ يَوْمُ يَأْسِهِ ... وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ
وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِلْمًا جَلِيًّا أَنَّ يَوْمَ بَدَاءَةِ الْعُمُرِ أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ يَأْسِهِ، لَكِنَّ الْبَدْءَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَكْمُلُ إِلَّا بِالْيَأْسِ أُشْكِلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، قَالَ: مَا قَالَ، وَكَذَا أَمْرُ الْمَطَرِ وَالْأُمَّةِ. اهـ. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ كُلَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْخَيْرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لِكَوْنِ نَبِيِّهَا نَبِيَّ الرَّحْمَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ انْحَصَرَ فِي سَابِقِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ الشَّرُّ فِي لَاحِقِهِمْ حَيْثُ بَدَّلُوا كُتُبَهُمْ وَحَرَّفُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهُمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلْمَانَ، فَقَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي فَتْوَاهُ ضَعِيفٌ مُتَعَقَّبٌ، وَقَدْ يُصَحِّحُ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، لَكِنْ فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ يُنَافِيهِ الْإِطْلَاقُ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: حَدِيثٌ، «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ لَهُ طُرُقٌ قَدْ يُرْتَقَى بِهَا إِلَى الصِّحَّةِ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ عَلِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute