الْحُكْمِ السَّابِقِ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنِ الْمُقْتَضِي لِلْأَوْلَوِيَّةِ، فَأَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَالنَّسَبِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ يَقْرُبُ زَمَانُهُ مِنْ زَمَانِهِ وَاتِّصَالُ دَعْوَتِهِ بِدَعْوَتِهِ، كَمَا سَتَجِيءُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ فَقَوْلُهُ: (مِنْ عَلَّاتٍ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: هُمْ إِخْوَةٌ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَلَّةَ الضَّرَّةَ وَبَنُو الْعَلَّاتِ أَوْلَادُ الرَّجُلِ مِنْ نِسْوَةٍ شَتَّى فَقَوْلُهُ: (وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى) ، أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مُخْتَلِفَةٌ إِمَّا تَأْكِيدٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى كَمَا أَنَّ أَوْلَادَ الْعَلَّاتِ أُمَّهَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَشَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: الْعَلَّةُ الضَّرَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَلَلِ، وَهُوَ الشَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْأُولَى، وَكَانَ الزَّوْجُ عَلَّ مِنْهَا بَعْدَمَا كَانَ نَاهِلًا مِنَ الْأُخْرَى مِنَ النَّهْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ الْأَوَّلُ، وَأَوْلَادُ الْعَلَّاتِ أَوْلَادُ الضَّرَّاتِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَاصِلَ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَالْغَايَةَ الْقُصْوَى مِنَ الْبِعْثَةِ الَّتِي بُعِثُوا جَمِيعًا لِأَجْلِهَا دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا بِهِ يَنْتَظِمُ مَعَاشُهُمْ، وَيَحْسُنُ مَعَادُهُمْ؟ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفَارِيعِ الشَّرْعِ الَّتِي هِيَ كَالْوَصْلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ، وَالْأَوْعِيَةِ الْحَافِظَةِ لَهُ، فَعَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا هُوَ الْأَصْلُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْأَبِ، وَنَسَبِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَبَّرَ عَمَّا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الْمُتَفَاوِتَةِ بِالصُّورَةِ الْمُتَقَارِبَةِ فِي الْفَرْضِ، يَعْنِي بِحَسْبِ الْأَزْمِنَةِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَشْخَاصِ الْمُخْتَلِفَةِ طَبْعًا بِالْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ تَبَايَنَتْ أَعْصَارُهُمْ وَتَبَاعَدَتْ أَيَّامُهُمْ، فَالْأَصْلُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَإِبْرَازِهِمْ كُلًّا فِي عَصْرِهِ وَأَمْرِهِ وَاحِدٌ، وَلِذَا قَالَ: (وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) : وَهُوَ الدِّينُ الْحَقُّ الَّذِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، مُسْتَعَدِّينَ لِقَبُولِهِ، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْأُمَّهَاتِ الْأَزْمِنَةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَشَفَتْ عَنْهُمْ، وَلِذَا قَالَ: (وَلَيْسَ بَيْنَنَا) أَيْ: بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى (نَبِيٌّ) : إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى نَبِيٍّ ذِي شَرْعٍ، أَوْ عَلَى أُلِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، بَلْ جِئْتُ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: ٦] قَالَ: وَبِهَذَا بَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْحَوَارِيُّونَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ حَمَلَ النَّفْيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: الْأَنْبِيَاءُ أُخُوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ كَمَا مَرَّ اسْتِئْنَافٌ عَلَى بَيَانِ الْمُوجِبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ". فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ الْبَيَانُ عَلَى الْمُبِينِ، يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِيمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ اخْتِصَاصٌ مِنْهُ، لَكِنْ أَنَا أَخَصُّ النَّاسِ بِعِيسَى، لِأَنَّهُ كَانَ مُبَشِّرًا بِي قَبْلَ بِعْثَتِي، وَمُمَهِّدًا لِقَوَاعِدَ مِلَّتِي، ثُمَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مُتَابِعٌ شَرِيعَتِي، وَنَاصِرٌ لِدِينِي، فَكَأَنَّنَا وَاحِدٌ، وَالْأُولَى وَالْآخِرَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ هُمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْحَالَةُ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهُ مُبَشِّرًا، وَالْحَالَةُ الْآخِرَةُ وَهُوَ كَوْنُهُ نَاصِرًا مُقَوِّيًا لِدِينِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: ٦٨] أَيْ إِنِّي أَخَصُّهُمْ بِهِ وَأَقْرَبُهُمْ فِيهِ؟ قُلْتُ: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتْبُوعًا، وَالتَّنْزِيلُ فِي كَوْنِهِ تَابِعًا، وَلَهُ الْفَضْلُ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: ١٢٣] وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفَظُ الْجَامِعِ: " «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَلَا يَخْفَى حُسْنُ نَظْمِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُطَابِقَةِ لِمُرَاعَاةِ تَرْتِيبِ الدِّرَايَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute