جَوَابُ الْزَمُوا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوِ الْحَالُ لِبَيَانِ الْمُوجَبِ (آثَارُكُمْ) : جَمْعُ أَثَرٍ، وَأَثَرُ الشَّيْءِ حُصُولُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: ١٢] أَيْ: أَجْرُ خُطَاكُمْ، وَثَوَابُ أَقْدَامِكُمْ، لِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةٌ، فَكُلَّمَا كَانَ الْخُطَا أَكْثَرَ يَكُونُ الْأَجْرُ أَكْثَرَ (دِيَارَكُمْ، تُكْتَبُ آثَارُكُمْ) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَنُو سَلِمَةَ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ سَلِمَةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ غَيْرَهُمْ، كَانَتْ دِيَارُهُمْ عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يُجْهِدُهُمْ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَعِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْطَارِ وَاشْتِدَادِ الْبَرْدِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُعَرَّى جَوَانِبُ الْمَدِينَةِ فَرَغَّبَهُمْ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى نَقْلِ الْخُطَا، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ أَنْ تُكْتَبَ فِي صُحُفِ الْأَعْمَالِ أَيْ كَثْرَةُ الْخُطَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْأَجْرِ، أَوْ أَنْ تُكْتَبَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ أَيْ: تُكْتَبَ قِصَّتُكُمْ وَمُجَاهَدَتُكُمْ فِي الْعِبَادَةِ فِي كُتُبِ سِيَرِ السَّلَفِ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِحِرْصِ النَّاسِ عَلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ ( «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) الْحَدِيثَ اهـ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مُعْجِزَةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ لِلتَّأْكِيدِ، بَلْ بِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابَتَيْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، لَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مَا وَرَدَ: مِنْ أَنَّ شُؤْمَ الدَّارِ عَدَمُ سَمَاعِهَا لِلْأَذَانِ، لِأَنَّ الشَّآمَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى فَوَاتِ الْوَقْتِ أَوِ الْجَمَاعَةِ، وَالْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ كَثْرَةُ الْخُطَا الْمُسْتَلْزِمَةِ لِكَثْرَةِ الْأَجْرِ، فَالْحَيْثِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْعِمَادِ بِأَنَّ الدَّارَ الْبَعِيدَةَ أَفْضَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا هُنَا، وَبِخَبَرِ مُسْلِمٍ «عَنْ جَابِرٍ: كَانَتْ دِيَارُنَا بَائِنَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْرُبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً) » . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا: «أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَبْعَدَهُمْ دَارًا فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَرْكَبُ؟ قَالَ: مَا سَرَّنِي أَنَّ مَنْزِلِي بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ فِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ خَبَرَ: فَضْلُ الدَّارِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَرِيبَةِ كَفَضْلِ الْفَارِسِ عَلَى الْقَاعِدِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَفُتْهُ بِبُعْدِ دَارِهِ مُهِمٌّ دِينِيٌّ كَتَعْلِيمِ عِلْمٍ وَتَعَلُّمِهِ، وَنَحْوِهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَإِلَّا فَالْقَرِيبَةُ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ كَالضَّعِيفِ عَنِ الْمَشْيِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute