[قصة سنمار وغدر الملك به]
وللعرب مثل كبير يقول: (نال جزاء سنمار) ويضربون به المثل في الرجل الذي يفعل الإحسان ثم يلقى الإساءة، وقصة سنمار أن مهندساً كان اسمه سنمار، بنى قصراً مشيداً رائعاً لملك في ذاك الزمن، وبينما سنمار جالس في ليلة مقمرة مع الملك قال للملك مفتخراً بصنعته وبنائه: إن في قصرك لبنة لو جذبها رجل انهدم القصر كله، قال -أي: الملك- يعلم هذا أحد غيرك؟ قال له: لا.
فقتله؛ ليموت السر الذي يحمله، وهو من صمم له القصر الذي يجلس فيه.
فجليس الملك وصفي الملك وخليل الملك لم يتورع الملك عن قتله يوم خالفه، وكذلك الراهب، لكنه لم يقل للغلام: ارجع عن دينك حتى إذا قال: لا، قتله؛ لأنه بإمكانه أن يضع يده في يد عدوه لتحقيق مصلحته، فهؤلاء لا مبدأ عندهم إلا هواهم، فالغلام أثبت جدارة ومهارة، وهو صغير السن وأمامه المستقبل، والملك محتاج إلى مثله، (فأتى به وقال له: ارجع عن دينك، فقال له: لا، فدعا جنوده وقال: خذوه على قمة الجبل الفلاني فإن رجع وإلا فألقوه) ولم يقل: خذوه على قمة الجبل واقتلوه، لا، ولكن هناك مراجعات؛ لأنه يحتاج إليه، (فأخذوه على قمة الجبل وقالوا: ترجع؟ قال: رب اكفنيهم بما شئت، فارتجف بهم الجبل فسقطوا، ورجع هو إلى الملك) فغلب أمر الله، (فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء، فأمر جنوده، قال: خذوه في قرقور -وهو القارب- وامضوا به في البحر، فإن رجع وإلا لججوا به -أي: اقذفوه في لجة البحر في وسط الماء- فلما كانوا في البحر قالوا له: ترجع؟! فقال: رب اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء)، هذه الآيات البينات كان من شأنها أن تجعل ذاك الجبار العنيد يتوب ويرعوي، ولكن (على قلوب أقفالها)، كلما ظهرت آية أخذته العزة بالإثم، وقبل أن يحاول قتله مرة ثالثة: (قال له الغلام: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به، تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على خشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي -وهي جراب السهام- وتضع السهم في كبد القوس، وتقول: بسم الله رب الغلام بأعلى صوتك، فإنك إذا فعلت ذلك وقع السهم هاهنا -وأشار إلى صدغه- فقتلتني)، فظن الملك أن المشكلة انتهت إلى هذا الحد، ولكن كان هذا هو المسمار الأول الذي دق في نعشه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].
(فجمع الناس في صعيد واحد -في ميدان عام- وصلب الغلام، وأخذ سهماً من بين السهام وصوبه إلى صدغ الغلام وقال: بسم الله رب الغلام، ورمى بالسهم إلى حيث أشار، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام)، فقتل الراهب وقتل الجليس وقتل الغلام، لئلا يفشو الإيمان في المملكة ففشى، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].
إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت أو كل الناس بعض الوقت، لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، إن الناس يموجون بين الهدى والضلال، لكن يجبنون ويعرفون الدعي الذي يكذب ويعد الوعود الكاذبة، ويعرفون الكاذب، ولكن لا يستطيعون الكلام، فإذا جاءت الفرصة تكلموا وفعلوا، وهذا ما فعله الرعية، وهذا فعل العامة في كل زمان.
لماذا آمنوا بالله رب الغلام؟ لأن رب الغلام هو الذي غلب، حاول الملك أن يقتل الغلام مرة من على الجبل، ومرة في البحر ولم يستطع، فلما قال: بسم الله رب الغلام؛ قتل الغلام، إذاً رب الغلام هو الأكبر وليس الملك، فاحتار الرجل، واستشار الذين حوله من بطانة السوء ماذا يفعل وقد آمن الناس جميعاً، فقالوا: والله وقع الذي كنت تحذر، فقال: وما العمل؟ قالوا: احفر الأخاديد على السكك، ثم ملأوا هذه الأخاديد بالنحاس المغلي، وعرض الناس على الكفر عرض الحصير عوداً عوداً، فيقال للرجل: تؤمن بالله رب الغلام، أو تؤمن بالملك؟ فإن قال: أؤمن بالله رب الغلام؛ قذفوه في الأخدود، وإن قال: آمنت بالملك؛ نجى، فذلك قوله تبارك وتعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:٤ - ٥] وفي بعض القراءات (ذات الوِقُود) أي: الاشتعال لشدة الحرارة.
حتى جاء الدور على أم تحمل ولدها، فالأم خافت، وكأنها تراجعت، فسمعت ولدها يقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق!! فتبين هذه القصة، كيف أن الله غلب على أمره، أراد الملوك أمراً وأراد الله أمراً، فكان ما أراد الله، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:١٥ - ١٧]، فكل مما يفعلونه من الإجراءات الاستثنائية، والأحكام العشوائية، واتهام الأبرياء بما ليس فيهم، وتنزيل أقصى العقوبات غير اللائقة لا قانوناً ولا وضعاً ولا عرفاً، كل هذا لا ينفع، فإن الله غالب على أمره، وخذ ما حدث في صحراء إيران أيام قضية احتجاز الرهائن، خذ منها عبرة في التاريخ الحديث.