[العابد الجاهل ضحية لجهله]
(فدلوه على راهب، فقال: إني قتلت تسعاً وتسعين نفساً ألي توبة؟ قال له: لا؛ فقتله).
هذا الراهب صار ضحية لسانه لجهله، فإنه أخطأ مرتين: الخطأ الأول: أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يفتي، (ألي توبة؟ قال: لا)، وما يدريك؟ التوبة هذه ما لأحد أبداً حق في أن يقحم نفسه فيها ولا أن يقول: تيب على فلان أو لم يتب، هذا ليس من اختصاص أحد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول -كما في حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه في البخاري وغيره-: (قال رجل لأخيه: والله لا يغفر الله لك.
فقال تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى عليَّ، قد غفرت له وأحبطت عملك) وما أدراه أيغفر له أم لا؟ أتخذ عند الله عهداً؟ وفي رواية الطبراني لهذا الحديث قال الله تبارك وتعالى لذلك النبي: (مره فليستأنف العمل) كل عمله الماضي أحبط فليبدأ من جديد؛ بسبب كلمة قالها.
وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان متواخيان في بني إسرائيل أحدهما مجد والآخر مقصر، فلا يزال المجد يقرع المقصر ويقول: تب إلى الله فإنه لا يحل لك ذلك، فقابله يوماً فوعظه فأكثر عليه، فقال له المقصر: خلني وربي، أبعثك الله عليَّ رقيباً أم جعلك عليَّ حسيباً؟ فقال له: والله لا يغفر الله لك! فقبضهما الله تبارك وتعالى ثم قال للمجد: أكنت على ما في يدي قادراً أم كنت بي عالماً؟ خذوه إلى النار، ثم قال للمقصر: خذوه إلى الجنة برحمتي).
هذا الباب لا يمكن أن يفتي فيه عالم، إنما الجاهل هو الذي يتجرأ، كيف لا والإنسان نفسه لا يدري أيقبل عمله أم لا؟! فإن كان عاجزاً عن معرفة مصيره فلأن يكون أعجز عن معرفة مصير غيره أولى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها لما تلت قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] أي: يفعلون الفعل وهم خائفون مغبة الحساب أمام الله تبارك وتعالى، قالت: (يا رسول الله! أهذا الذي يزني ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق هؤلاء أقوام جاءوا بصلاة وصدقة وصيام، ثم يخشون ألا يتقبل منهم) يخشى ألا يتقبل منه رغم أنه يقف بين يدي الله تبارك وتعالى يفعل الصالحات ولا يفعل المنكرات، ولكنه لا يدري أيقبل الله تبارك وتعالى منه عمله بفضله أم يرده عليه بعدله.
فهذا الباب مغلق ولا يكون إلا لنبي الله تبارك وتعالى يطلعه على الغيب فيما يتعلق بفلان أو مصير فلان، أما بقية البشر فلا يجوز لأحد قط أن يلج هذا الباب؛ لذلك عرفنا أن الراهب هذا جاهل بسبب فتواه، فإن أهل الورع يستعظمون الإكثار من المباحات فكيف إذا جهر بالمحرمات؟! ولذلك الشيطان يسهل عليه أن يدخل على أهل الورع الذين ليس عندهم علم ويلبس عليهم بخلاف العلماء.
أهل الورع هم الذين يكرهون الإكثار من المباحات فمثلاً: قرأت لبعضهم -وينسبونه لبعض الزهاد المتبوعين، ولا أدري بصحة ذلك-: أن رجلاً جاء إلى هذا العابد فقال: إن شاتي سرقت.
فذهب هذا العابد إلى قصاص، وقال له: كم تعيش الشاة؟ قال مثلاً: خمس سنوات، فحرم على نفسه أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات لماذا؟ خشية أن يأكل من الشاة المسروقة.
فالإنسان إذا عمل بهذا في خاصة نفسه -لا بأس به، والورع هذا ليس له حد، تنقطع فيه أعناق الإبل كما يقال، ولكن لا يأتي الإنسان فيفرضه على أخيه، ولا يفتي به، فهناك فرق بين أن يتبنى الإنسان الشيء في نفسه وبين أن يفتي الناس به.
فمن جهة الفتوى لا يحل لأحد أن يقول: لا تأكل، لكنه قد يعمل به في خاصة نفسه، فتصور رجلاً قد يصل به الورع إلى هذه الدرجة وجاءه رجل فقال: إني قتلت مائة نفس، فالحمد لله أن روحه لم تخرج من بشاعة الذنب! لذلك أول ما قال: قتلت مائة نفس ألي توبة؟ قال له: لا.
بادر وأغلق باب التوبة في وجهه.
الخطأ الثاني الذي أخطأ فيه هذا الراهب: أنه ما كان عنده فقه النفس الذي هو: مراعاة مقتضى حال المخاطب، أو حالة الفتوى على حال المستفتي، أو وضع الأمور في مواضعها هذا هو معنى فقه النفس، والعلماء يشترطون في المفتي أن يكون فقيه النفس.
فهذا العابد لم يكن عنده من فقه النفس شيء، بدليل أنه لم يراع حال المستفتي، فهو أمام رجل قتل تسعاً وتسعين نفساً فما هو المانع أن يضيف على التسعة والتسعين واحداً آخر؟ إذا علم أنه إن أغلق في وجهه باب الأمل، فكان المفروض أن يداريه ولا يجيب، يقول: دعني أراجع اسأل فلاناً مر عليَّ بعد يوم أو بعد يومين إلخ، والمداراة هذه مسألة مطلوبة لاسيما إذا واجه الإنسان فتوى معينة ليس عنده عنها جواب أو هي مما عمت بها البلوى ولم يكن عنده فيها جواب حاسم، فله أن يخرج منها بطريقة ما.
فهذا الرجل لم يكن عنده من فقه النفس شيء، فدلنا ذلك على أنه لم يكن عالماً حقاً، ولذلك راح ضحية جهله.