الذي حكَّم المذهب المالكي في ثبوت الأهلة وكان يشق على المتعمقين من مقلديه تقليد المذهب الحنفي حتى كانوا يصومون ويفطرون سراً إذا لم يكن ثبوت ذلك على قواعد مذهبهم وهم السواد الأعظم قال: كلهم على هدى من ربهم ورحمة وحسبنا تقليد إمام دار الهجرة لا سيما وأهل مذهبه هم السواد الأعظم في المملكة فأمر القاضي المالكي بمباشرة ذلك ولم يزل العمل جارياً بذلك إلى هذا العهد، وله مآثر كثيرة كالأبراج الضخمة والقشل الكثيرة داخل الحاضرة وخارجها والسوق القريب من سوق التركي، وقصره المطل عليه البالغ الغاية في الاحتفال وهو من أفخم الآثار يباهي به في الأقطار، وكانت له أساطيل لنكاية العدو في غاية المنعة وبالجملة فإن هذا الأمير تصرف في المملكة تصرف الأب الشفوق على أبنائه، وأحيا لها ذكراً وفك لها أسراً. وتوفي عالي الكتب عظيم الجاه بعيد الصيت فجأة ليلة الجمعة مفتتح شوال سنة ١٢٢٩هـ وفي يوم الجمعة الموافق ليوم المولد النبوي من السنة أقيمت صلاة الجمعة بجامع الحلفاوين الذي أنشأه وزيره أبو الخيرات يوسف صاحب الطابع وحضر هذا الأمير الصلاة به في وجوه دولته وكان يوماً مشهوداً ووضع به أربع خزائن من نفائس الكتب العلمية في يوم كان جامع الزيتونة لا كتب به وأوقف عليه وعلى المدرسة المؤسسة حذو هذا الجامع أوقافاً طائلة وله غير ذلك من الآثار الخالدة والمرافق الجليلة والسبل النافعة والصدقات الجارية مع ما اشتهر به من محبة العلماء والصالحين ومات شهيداً في خبر طويل في صفر سنة ١٢٣٠هـ على عهد المولى محمود بأي الآتي ذكره وفي ليلة العيد التي مات فيها المولى حمودة تمت البيعة لأخيه عثمان باتفاق من أهل الحل والعقد وكانت أيامه على قصرها أيام خصب ورخاء واستشهد بعد خلعه ليلة عاشوراء سنة ١٢٣٠هـ وبويع لابن عمه الأمر محمود باشا ابن المولى الباشا محمد ابن المولى حسين بن علي صبيحة الليلة المذكورة وباشر الأمر برفق وأمنت في أيامه السبل ودانت لطاعته القلوب وكان مفضالاً ذا حلم وحنان محمود الأخلاق طيب الأعراق سمحاً مشتهراً بالكرم وفعل الخير إلا أن الإمارة وافته على كبر سن مع المرض فمال للراحة وفوض الأمر لبنيه. ومن آثاره البيت الذي أنشأه بقصر باردو الذي لم يسبق نظيره في البلاد جعل سقفه من البلور المعقود بالصفائح المذهبة بإتقان بديع وألبس حيطانه الرخام المنمق المرونق على أبدع شكل وأجمل منظر وأنفق الأموال العظيمة في جلب الأقوات الكافية لسد خلة المملكة في مجاعة عام ست وثلاثين وذلك عقب الطاعون الفتاك الذي دام أكثر من عامين. وكانت مدته في أمن وسرور إلى أن توفي في رجب سنة ١٢٣٩هـ بعد أن عهد بالإمارة لابنه المولى حسين باشا وتمت له البيعة بعد وفاة