لَا يَنْتَهِي.
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يُرْجَ لَهُ صَلَاحٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ فَضْلٌ. وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ:
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ ... لِتَطْلُبَ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إنْسَانُ
وَلِلْحَذَرِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مَا حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَزْمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَمُرُّ عَلَى الْفَاكِهَةِ فَيَشْتَهِيهَا فَيَقُولُ: مَوْعِدُك الْجَنَّةُ. وَقَالَ آخَرُ: تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا أَوْلَى، وَإِعْطَاؤُهَا مَا اشْتَهَتْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَحْرَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ارْتِيَاحِ النَّفْسِ بِنَيْلِ شَهَوَاتِهَا، وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ لَذَّاتِهَا، فَتَنْحَسِرُ عَنْهَا ذِلَّةُ الْمَقْهُورِ، وَبَلَادَةُ الْمَجْبُورِ، وَلَا تَقْصُرُ عَنْ دَرَكٍ وَلَا تَعْصِي فِي نَهْضَةٍ وَلَا تَكِلُّ عَنْ اسْتِعَانَةٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَوَسُّطُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي إعْطَائِهَا كُلَّ شَهَوَاتِهَا بَلَادَةٌ وَالنَّفْسُ الْبَلِيدَةُ عَاجِزَةٌ، وَفِي مَنْعِهَا عَنْ الْبَعْضِ كَفٌّ لَهَا عَنْ السَّلَاطَةِ، وَفِي تَمْكِينِهَا مِنْ الْبَعْضِ حَسْمٌ لَهَا عَنْ الْبَلَادَةِ. وَهَذَا لَعَمْرِي أَشْبَهُ الْمَوَاهِبِ بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ التَّوَسُّطَ فِي الْأُمُورِ أَحْمَدُ. وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْبَعَ بِذِكْرِ الْمَلْبُوسِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ أَدْعَى فَهِيَ إلَى الْمَلْبُوسِ مَاسَّةٌ وَبِهَا إلَيْهِ فَاقَةٌ؛ لِمَا فِي الْمَلْبُوسِ مِنْ حِفْظِ الْجَسَدِ وَدَفْعِ الْأَذَى وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَحُصُولِ الزِّينَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: ٢٦] .
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: (أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) ، أَيْ خَلَقْنَا لَكُمْ مَا تَلْبَسُونَ مِنْ الثِّيَابِ. يُوَارِي سَوْآتِكُمْ أَيْ يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ وَسُمِّيَتْ الْعَوْرَةُ سَوْأَة؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهَا انْكِشَافُهَا مِنْ جَسَدِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَرِيشًا، فِيهِ أَرْبَعَةِ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ الْمَالُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اللِّبَاسُ وَالْعَيْشُ وَالنِّعَمُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالثَّالِثُ أَنَّهُ الْمَعَاشُ وَهُوَ قَوْلُ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، وَالرَّابِعُ أَنَّهُ الْجَمَالُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute