وَشَهْوَةٌ فِي تَنَاوُلِ الْأَلْوَانِ الْمُلِذَّةِ. فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ شَهْوَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْإِكْثَارِ عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ مَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ نَهَمٌ مُعَرٍّ وَشَرَهٌ مُضِرٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ مُورِثَةٌ لِلسَّقَمِ مُكْسِلَةٌ عَنْ الْعِبَادَةِ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ كُنْتَ بَطِنًا فَعُدَّ نَفْسَك زَمِنًا. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَقْلِلْ طَعَامًا تُحْمَدْ مَنَامًا. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: الرُّعْبُ لُؤْمٌ وَالنَّهَمُ شُؤْمٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَكْبَرُ الدَّوَاءِ تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
فَكَمْ مِنْ لُقْمَةٍ مَنَعَتْ أَخَاهَا ... بِلَذَّةِ سَاعَةٍ أَكَلَاتِ دَهْرِ
وَكَمْ مِنْ طَالِبٍ يَسْعَى لِأَمْرٍ ... وَفِيهِ هَلَاكُهُ لَوْ كَانَ يَدْرِي
وَقَالَ آخَرُ:
كَمْ دَخَلَتْ أَكْلَةٌ حَشَا شَرِهٍ ... فَأَخْرَجَتْ رُوحَهُ مِنْ الْجَسَدِ
لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الطَّعَامِ إذَا ... كَانَ هَلَاكُ النُّفُوسِ فِي الْمَعِدِ
وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتْ آكِلًا وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ.
رَوَى أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ وِعَاءً مَلِيئًا شَرًّا مِنْ بَطْنٍ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلرِّيحِ» .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ شَهْوَةُ الْأَشْيَاءِ الْمَلَذَّةِ وَمُنَازَعَةُ النُّفُوسِ إلَى طَلَبِ الْأَنْوَاعِ الشَّهِيَّةِ فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ النَّفْسِ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا أَوْلَى، وَقَهْرَهَا عَنْ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أَحْرَى، لِيَذِلَّ لَهُ قِيَادُهَا. وَيَهُونَ عَلَيْهِ عِنَادُهَا؛ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا وَمَا تَهْوَى بَطَرٌ يُطْغِي وَأَشَرٌ يُرْدِي؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَإِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَادَ مِنْ شَهَوَاتِ وَقْتِهَا تَعَدَّتْهَا إلَى شَهَوَاتٍ قَدْ اسْتَحْدَثَتْهَا، فَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ أَسِيرَ شَهَوَاتٍ لَا تَنْقَضِي، وَعَبْدَ هَوًى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute