هذا البحث الخطر تعرضاً علمياً لا شيء من الشعر والخيال فيه يدعو لكثير من التحليل والدرس ويتطلب تعليلاً قائماً على الاستقراء مستنداً على وصف الواقع في مختلف الأوساط والجماعات السورية وتفهم أوضاعها الروحية والاجتماعية مما لا نستطيع أن نوجزه جميعه في هذه العجالة، على أن ذلك يجب أن لا يمنعنا من أن نشير في مقالنا هذا إلى بعض تلك الوجوه الظاهرة السورية القديمة التي أوشكت أن تتصل بكل منحى من مناحي حياتنا الاجتماعية وتطفو عليها. ويخيل إلينا أن أهم ما يدل عليها هو البحث عما ينافي وجودها في مختلف الأوساط والجماعات السورية وليس من شيءٍ ينفي وجودها مثل ظاهرة التهافت على العمل حباً بالعمل نفسه أو العمل في سبيل الجماعة مجرداً عن الغاية الفردية والنفع الذاتي. وإذا شرعنا بدرس الأوساط والجماعات التي نعيش فيها، فاخترنا منها بادئ ذي بدء أوساطنا العلمية والفكرية، وعرضنا حياة أصحابها الخاصة والعامة على التحليل والدرس، تحليلاً صادقاً بعيداً عن العاطفة والهوى ومجرداً عن النزعة القومية والدينية، لعز علينا أن نجد فيهم ما ينفي هذه الظاهرة المتأصلة في النفوس أو ما يدل على ضدها من حب العمل للعمل نفسه والانصراف إليه حرصاً على تقدمه وإصلاحه أو الإقدام عليه في سبيل الجماعة أو في سبيل الخير العام. وإذا عن لك أن تردد بخاطرك ذكرى جميع من عرفتهم من مواطنيك من رجال العلم والفكر في هذا الزمن الذي تعيشه من علماء وشعراء وفنانين وأساتذة وأطباء ومحامين ومهندسين وغيرهم من أرباب الحرف الحرة المنتشرين في طول هذا الوطن وعرضه لتبين لك بوضوح وجلاء أن القوم، ونحن في مقدمتهم، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، تجار قدماء أرغموا أنفسهم على أعمالهم أرغاماً سعياً وراء الربح لا حباً بهذه الأعمال ولا ولعاً بذاتها، فغايتهم الأولى المال، وهدفهم الأسمى النفع المادي، لا يخطون خطوة إلا ويحسبون ما يحنون من ورائها من كسب، ولا يفكرون بمشروع إلا وأنفسهم في المقدمة وربحهم قبل كل حساب، سواء كان ذلك مما يعود على العمل نفسه بالنفع أو بالضرر وسواء لديهم خسر العمل أو ربح، فالعلم والأدب والصنعة والمسلك والحرية وحتى الفن والشعر والجمال في نظرهم، واسطة من وسائط الغنى وجمع المال لا أكثر ولا أقل. لقد بلغت هذه العاطفة من نفوسهم مبلغاً أماتت فيها كل عبقرية خالدة تنشأ من حب العمل والولع به والانصراف إليه بسائق الهوى والشغف، فليس بينهم من