وما القراء في مصر إلا واحد من ثلاثة: قارئ الأقاصيص والنوادر، وقارئ الأدب العربي، وقاري، الأدب الإفرنجي.
فأما قراء الأقاصيص والنوادر فأعنى من أن يقرأوا أدباً قديماً كان أو حديثاً. وأجهل إن قراؤه من أن يميزوا بين زهيدة وثمينه، وبغية هؤلاء من الكتب إنما هي تمرين ألسنتهم على الهجاء أو تبديد الوقت في البطالة والفراغ.
وأما قارئ الأدب العربي فإن كان ممن يقرأ فلا يروئ في المطالعة بصره ولا يصير من تلاوة الشيء إلى الحكم عليه فما أشبهه بقراء الأقاصيص!! وإن كان يقرأ ويحكم فهو إنما يحكم بطراز ألفه وشب عليه فلا معدل له عنه. ولا مقياس للأدب العصري إلا أدب الأمم التي سبقتنا في أدوار الحياة والفنون فهو - أي قارئ الأدب العربي - معزول أتم العزل عن آداب تلك الأمم. لا يستطيع نقدها وتقديرها إلا إذا استطاع إماطة الحجاب عن الغيب لأن حكم الرجل على ما ليس يعرف وتوهمه في نفسه القدرة على نقد أدب لا يلحن لغاته ولا يقرأ كتبه ولا يلم يسير أدبائه وأخلاقهم أو بمحاضراتهم ومساجلاتهم أو يحيط بآراء النقاد فيهم وأقوال بعضهم في بعض ويعارض بين عصورهم ومذاهبهم ثم لا يعلم الميزان الذي يزنون به إجادتهم ملاومهم - ذلك بمنزلة حذر الغيب.
ولا يحسن هؤلاء الأدباء المقارنة بين الأدبين إلا من جهات المشاركة وهي أخس ما في الأدب العصري وأنأى ما فيه عن جوهره وزبدته. وكائن ترى منهم من يقارن بين أديب محدث وأديب قديم فيرجح هذا على ذاك أنه أرجح من قبل المشاركة وبصفح عما سوى ذلك من الحسنات التي استدق سرها عليه بل يتعجل فيقضى للأدب إلى آخر بخطراته حتى لا يحرم قراء العربية حسنات هذا الكاتب الذي أبت نفسه عليه أن يلابس هذا العالم المنكوس:
عالم أشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خفة الأرواح
فاختار أن يقيم بعيداً عن المدينة وما فيها من الكذب والنفاق وسقوط الهمم ونستغفر الله القديم جملة على الأدب المصري جملة. وهو إن كان له عذر من الجهل بفضائل الآداب الأجنبية فلا عذر له من الحكم على ما يجهل.