للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مزيفون ماهرون يزيفون الشعر ويصنعونه، فهم أصحاب صنعة محترفون للتزييف. أما محمد بن إسحاق، فإنه في نظره نمط آخر، نمط رجل جاهل بالشعر، دفع إليه الناس المصنوع من الشعر وكل غثاء منه، فحمله، وأدخله في السيرة، وحمل الناس عنه الأشعار، وكان عذره أنه لا علم له بالشعر، إنما يؤتى به إليه فيحمله ويدونه، ولكنه لامه على هذا الاعتذار بقوله: "ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط. وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ١.....إلخ، وقد اتهمه غيره بأنه "كان يعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه السيرة فيفعل فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر، وأخطأ في النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتابه أهل العلم الأول "وأصحاب الحديث يضعفونه"٢. وألحق بهذا الصنف من رواة الشعر ومدونيه جماعة الصحفيين، الذين لم يكونوا يميزون بين الشعر، ويحملون كل ما يعطى لهم، من شعر غث أو زائف، وقد يصحفون في تدوينه، لعدم وجود علم لهم به، فهم أيضًا في جملة من أفسد الشعر.

وابن سلام الجمحي، من علماء البصرة، وأكثر حملة الشعر البصريين يتحاملون عليه عصبية، منهم لمدينتهم، لأنه من أهل الكوفة، وكان أهل الكوفة يغضون أيضًا من شأن رجال العلم البصريين ويتحاملون عليهم. وكلٌّ ينسب إلى خصمه التزييف ونحل الشعر على ألسنة الشعراء المتقدمين، وكل منهم يتهم الآخر بالتهمة التي يوجهها لخصمه من التزييف والجهل.

ولم يكن ابن سلام أول من نبه إلى وجود النَّحْل في الشعر، ولم يكن هو أيضًا آخر من وضع رأيًا في النقد، فتوقف الناس بعده. فقد سبقه الأعشى وغيره إلى هذا الرأي. ثم جاء بعده علماء كانت لهم آراء قيمة في هذا الشعر وفي


١ طبقات "١٤"، الفِهْرِسْتُ "١٤٢".
٢ الفِهْرِسْتُ "١٤٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>