عنهم إنما تناول الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل على حدود الإمبراطوريتين، فأضاعوا علينا بذلك فوائد كبيرة، كان يمكن الاستفادة منها في تديون تأريخ ظهور الكتابة وعلوم العربية عند العرب. أما الموارد الإسلامية، فقد رأينا رأيها في أول ظهور النحو، وقد رأينا حاصل روايات مضطربة، يكتنفها غموض، ثم هي عاجزة في النهاية عن بيان كيفية توصل الإمام "علي" أو أبي الأسود إلى استنباط هذا التقسيم الثلاثي للكلم، ثم البحث في "العطف" و"النعت" والتعجب والاستفهام، وباب إن وأخواتها، والفاعل والمفعول، ونحو ذلك من قواعد، لا يمكن لإنسان استنباطها بمفرده من غير علم سابق له بقواعد اللغات، مهما أوتي ذلك الإنسان من ذكاء خارق وقوة إبداع!
وأنا لا أستطيع أن أتصور أن إنسان يستطيع أن يجلس بمفرده ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي تكلَّم بها قومه، وهو غير مسلح بعلم سابق باللغات ولا بمعرفة مسبقة بقواعدها. ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها إلا إذا كان ذا علم بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى، لأنها مصطلحات علمية منطقية، لا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول إنها حاصل ذكاء وعقل متقد. وكيف يعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط أن الكلمة إما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجالة نظر وإعمال فكر من دون إن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد، ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقدة الأخرى التي لم يبتدعها إنسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل وعمل الفاعل وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل إليها عقل إنسان واحد أبدًا.
لقد كان للبابليين ولغيرهم من أهل العراق علم باللغات، وكان لهم أساس في النحو وفي دراسة اللغة، كما كان لليونان ولغيرهم علم بالمنطق والنحو واللغات، وصل إلى العراقيين قبل النصرانية وبعدها، بطرق لا مجال للتحدث عنها في هذا المكان. وبقي هذا العلم العراقي اليوناني إلى الإسلام، ومنه جاء في نظري علم