للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنا على رأي ابن فارس القائل إن الإعراب كان قديمًا عند العرب، قدم معرفتهم بالحروف، وإن علم العربية كان قديمًا، ثم جدده أبو الأسود الدؤلي على نحو ما حكيته من قوله في ذلك قبل قليل١. وعندي أن علم "العربية" كان معروفًا في العراق، وأنه كان يدرس في مدارس الحيرة وعين التمر والأنبار وربما في مواضع أخرى، كان غالبية سكانها من العرب النصارى، كان يدرسه لهم رجال الدين، الذين كانوا يتقنون الإرمية، وكانوا قد أخذوا علومهم في النحو من اليونان، بتأثير النصرانية ودراسة الأناجيل والكتب الدينية المؤلفة باليونانية. ولما كان أهل المواضع المذكورة من العرب، فلا يستبعد ظهور جماعة من رجال الدين النصارى العرب، اتخذت من مبادئ النحو التي وضعت للسريانية والمنقولة عن اليونانية، قواعد لضبط العربية بموجبها، كما ضبطوا الكتابة بها بالأبجدية التي صارت الأبجدية التي انتشرت بين أهل مكة ويثرب وأماكن أخرى. وبين هذه الأبجدية وبين العربية، من حيث هي قواعد صلة متينة. فلا يستبعد قيام رجال الدين بتعليم العربية والخط للعرب، لأنهم كانوا يقومون بالتبشير، وكان من مصلحتهم نشر الكتابة بين من يبشرون بينهم، وتعليمهم أصول اللغة، ليكون في وسع من يعتنق النصرانية تثقيف المشركين، وكانت هذه طريقتهم في التبشير في المواضع الأخرى من العالم.

وأنا لا استبعد احتمال وقوف علي بن أبي طالب، أو أبو الأسود الدؤلي على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف. وقفًا عليه باتصالهم بالحيرة أو بعلماء من أهل العراق كانوا على علم النحو وعلوم اللغة في ذلك العهد، وقد كان ذلك في الأسس والمبادئ، فلما جاء الإسلام، وأخذ المسلمون علم العربية عن المتقدمين، زادوا فيه وفرَّعوا واستقصوا وقاسوا، وأخذوا من كلام العرب ومن الشعر، حتى تضخم النحو فبرز على الصورة التي نجدها في "كتاب" سيبويه وفي الكتب التي وضعت بعده.

ومما يؤسف له كثيرًا أن المؤرخين اليونان واللَّاتين والسُّريان لم يذكروا أي شيء عن علوم العربية عند العرب، وفي ضمنهم المؤرخون الذي أرَّخوا تأريخ الكنيسة والنصرانية، بسبب أنهم لم يكونوا يحفلون كثيرًا بأمور العرب، وأكثر ما ذكروه


١ الصاحبي "٣٨ ومابعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>