للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤ - ومثال ما يقع في العقل أن الشريعة بينت أن التشريع لله وحده، فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع بالتحسين والتقبيح فابتدعوا في دين الله تعالى ما ليس منه. ومن ذلك أن الخمر لما حرمت ونزل من

القرآن في شأن من مات قبل التحريم - وهو يشربها - قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا … } (١) الآية، تأولها قوم على أن الخمر حلال، وأنها داخلة تحت قوله: {فِيمَا طَعِمُوا}، فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب، وقد تقدم بيان ذلك في أمثلة البدعة الحقيقية فارجع إليه إن شئت.

٥ - ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا: إنما البيع مثل الربا، أرادوا نظمها في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله، وقالوا: يجوز بيع عشرة من الدنانير بأحد عشر، كما جاز بيع ما قيمته عشرة بأحد عشر، بل جعلوا الربا أصلًا في الحل، وقاسوا به البيع مبالغة، والأصل إنما الربا مثل البيع فأنكر الله عليهم هذه التسوية بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (٢)، وحاصله: أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لوقوعه في مقابلة النص، على أن بينهما فارقًا، وهو أن من باع ثوبًا مثلًا قيمته عشرة في الحال بأحد عشر إلى أجل فقد جعل الثوب مقابلًا للأحد عشر، فلا شيء منها إلَّا وهو في مقابلة شيء من الثوب، بخلاف ما إذا باع العشرة بأحد عشر، فإنه أخذ الزائد بغير عوض، ولا يمكن جعل الإمهال عوضًا لأنَّه ليس بمال حتى يكون في مقابلة الزائد، وهذا عين الرِّبا؛ لأنَّه زيادة لا يقابلها عوض في معاوضة ماليه - كما سبق - هذا بيان الحكم التكليفى المنوط بالبدعة.

وأما حكمها بمعنى العقوبة المترتبة عليها، فإن كانت البدعة ممَّا توجب الردة والعياز بالله تعالى فجزاء المبتدع جزاء المرتد يستتاب، فإن لم يتب يقتل، فإن لم تكن توجب الردة فتختلف عقوبتها بحسب اختلاف حالها في نفسها من كونها عضيمة المفسدة في الدين أَوْ لا؛ وكون صاحبها مشتهرًا بها أَوْ لا، وداعيًا إليها أَوْ لا، ومستظهرًا بالأتباع وخارجًا عن الناس أَوْ لا، وكونه عاملًا بها على جهة الجهل أَوْ لا، وكل من هذه الأحوال له حكم اجتهادى يخصه، إذ لم يرد في الشرع الشريف في البدعة


(١) [سورة المائدة: الآية ٩٣].
(٢) [سورة البقرة: الآية ٢٧٥].

<<  <   >  >>