أمعلِّمَ الشعراءِ وصفَ ذوى العُلى ... فتراه يهْدِيهم إلى المَضْمونِ
أنا مَن عرفتَ وِدادَه وجهلْتَه ... ولوسف تغنَم منه خيرَ خَدِينِ
فبقيتَ في حفظِ الإله ممتَّعا ... بالعِزِّ والإسْعاف والتَّمكِينِ
فُعلاكَ فخرٌ للزمان وأهلِه ... وبَقاك أكبرُ نعمةٍ للدِّينِ
ولذاك لم أنْطِق بمدْحِك داعياً ... إلا أجاب الناسُ بالتَّأْمينِ
فكتب إلىّ جوابها رسالةً، وشحها من نفائس أنفاسه نثراً وشعراً، ولم يهد النجم في مطالع البدائع إلا النثرة والشعرى:
أهلاً بطيْفٍ من حبيبٍ زارَا ... أهدى حياةً شافهتْ أوْطارَا
أفدِيه من طيفٍ ألَمَّ بمضجِعي ... فأثار في أحشاءِ قلبيَ نارَا
شوقا إلى خِلٍّ تذكُّرُ عهدِه ... لم يُبْقِ في قلبي الخَفُوقِ قَرارَا
أصْبُوا إليه إذا تألَّق بارِقٌ ... وأحِنُّ إن رَكْبٌ إليه سارَا
وإذا ترنَّم صادحٌ في أيْكِةً ... من نحْوِه اختطف الفؤادَ وطارَا
إن أبهى ما أفصح به اليراع بيد أنه رضيع ثدي المحابر، وأسمى ما خطب به القلم وهو على منابر الدفاتر.
سلامٌ أحلى من رحيق الأفواه لدي الصباح، وهيامٌ أجلى عن عقيق الشفاه من الصباح، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح، وأنشق من عبير شقيقها وقد فاح، وأنسق من المزن في فم الأقاح.
وبث أشواق يقف لسان القلم عن إحصائها، وتجف أفواه المحابر عن إرادة استقصائها.
إلى من أجمع أهل الفضل على توحده في الدهر، واتفق أهل الحل والعقد على تفرده بالفخر.
وظهرت معاليه ظهور الشمس في الإشراق، وعمت أضواء إفادته عموم ضياء البدر في الآفاق.
وهيهات تخفى في الظلام مشاعل، أو تستر على الأيام هذه الفضائل.
وقد هَّبت الشَّمال بنشرها، وسارت الركبان بذكرها.
لا برحت أنوارها مشرقةً على الأنام، وآثارها جلاءً لقلوب الإخوان من غصص الأيام.
وقد وردت القصيدة التي هي شرف الزمان، وفخر البراعة والبيان.
فلا زالت أيادي مولانا مشكورةً مقبولة، ومَبرَّاته وصلاته واصلةً موصولة.
ولا برحت الأسماع تتحلَّى بدره الثمين، آمين آمين، وبالنبيَّ الأمين.
فكتب إليه بهذه القصيدة، وهي:
أما المَشُوق فلا يُطيق قَرارَا ... وأراه يْقضِى عمرَه تَذْكارَا
يُصْيِبِه مُعترِض البُروقِ إذا هفَا ... فيُحِسُّ منها في الحُشاشةِ نارَا
وَجْدٌ لقد قصُرتْ مُناه على الظِّبَا ... أتَرُوم منه على الهوى إقْصارَا
وأبِيك ما اخْترتُ السُّلُوَّ ولو جَفَا ... مَن كنت أهواه وشَطَّ مَزارَا
بأبِي من النَّفَر القواتَلِ جُؤْذُرٌ ... تركَ الأسودَ بناظريْه أَسارَى
رَقَم الجمالُ على صحيفِة خدِّه ... سطراً فظنَّتْه الوُشاة عِذارَا
يرْنُو بأكحلَ مُرْسِل من لَحْظِه ... لِمَنَّية المُضنَى شَباً بَتَّارَا
يا مُهلِك العشاقِ مهلاً في شَجٍ ... تَخِذَ التَّهتُّك في هواك شِعارَا
لولاك لم يَهْوَ الحسانَ ولم يكنْ ... ممَّن يَذلُّ لغيرِك اسْتكبارَا
لم أنْسَ عهدك والزمانُ بحالِه ... والعيشُ يمنْحُه المُنَى ما اخْتارَا
أيامَ نأخذُها كُمَيْتاً سَلْسَلاً ... لا مُرَّةً كلاّ ولا مُصْطارَا
في روضةٍ فُرِشتُ بِساطاً أطْلَعتْ ... نُوَّاره عَوْضَ النِّثارِ نِثارَا
غَنَّاء نَمْنَمَها الربيعُ فأظهرتْ ... حِكَماً لنا قد أبدعتْ أسرارَا
طابتْ فكادتْ أن تُشابِه خُلْق مَن ... ساد الأنام فضائلاً وفَخارَا
مولايَ نجمُ الدين أفضلُ ماجدٍ ... قد طاب فَرْعاً حيث طاب نِجارَا
شَهْمٌ إذا بَخِل الغمامُ أفاض مِن ... كفَّيْه بحرا بالعَطا زَخَّارَا
لو صادفتْ صُمَّ الصخورِ رَذاذةٌ ... منه لأنْبَتها الربيع بَهارَا