اغْفِر لي ولمحمد) الحَدِيث. وَأخرج أَبُو دَاوُد هَذِه الْقِصَّة أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن معقل بن المقرن قَالَ: (صلى أَعْرَابِي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيهِ: وَقَالَ، يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فألقوه وأهريقوا على مَكَانَهُ مَاء) . ثمَّ قَالَ ابو دَاوُد: وَهُوَ مُرْسل ابْن معقل لم يدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الحَدِيث ذكره أَبُو دَاوُد وَضَعفه، وَقَالَ: مُرْسل. قلت: لم يقل أَبُو دَاوُد: هَذَا ضَعِيف، وَإِنَّمَا قَالَ: مُرْسل، وَهُوَ مُرْسل من طَرِيقين: أَحدهمَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْآخر مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين مسندين أَيْضا: أَحدهمَا: عَن سمْعَان بن مَالك عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي فَبَال فِي الْمَسْجِد، فَأمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بمكانه فاحتفر وصب عَلَيْهِ دلو من مَاء) ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) . . وَالثَّانِي: أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَن أنس: (أَن أَعْرَابِيًا بَال فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: احفروا مَكَانَهُ ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذنوباً من مَاء) .
بَيَان لغته قَوْله: (فَصَبَّهُ) الصب: السكب، يُقَال: صببت المَاء فانصب أَي سكبته فانسكب وَالْمَاء ينصب من الْجَبَل أَي يتخذر وَيُقَال ماصب وَهُوَ كَقَوْلِك مَا سكب ويروى فصب، بِدُونِ الضَّمِير الْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي: (فَلَمَّا قضى بَوْله أمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذنوب من مَاء فأهريق عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأمر رجلا من الْقَوْم فجَاء بِدَلْو فسنه عَلَيْهِ) ، بِالسِّين الْمُهْملَة، ويروى بِالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَالْفرق بَينهمَا أَن: السِّين، بِالْمُهْمَلَةِ: الصب الْمُتَّصِل، وبالمعجمة: الصب الْمُنْقَطع. قَالَه ابْن الاثير: والذنُوب، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: الدَّلْو الْعَظِيمَة، وَقيل: لَا يُسمى ذنوباً إلَاّ إِذا كَانَ فِيهَا مَاء. قَوْله: (اهريقوا) أَصله: (أريقوا) من الإراقة، فالهاء زَائِدَة، ويروى: (هريقوا) ، فَتكون الْهَاء بَدَلا من الْهمزَة.
بَيَان إعرابه قَوْله: (رأى) بِمَعْنى: أبْصر، و (أَعْرَابِيًا) مَفْعُوله، وَقَوله: (يَبُول) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة: لأعرابياً، وَالتَّقْدِير: أبْصر أَعْرَابِيًا بائلاً. وَقَالَ الْكرْمَانِي؛ و: يَبُول، إِمَّا صفة وَإِمَّا حَال. قلت: لَا يَقع الْحَال عَن النكرَة إلَاّ إِذا كَانَ مقدما على ذِي الْحَال، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
بَيَان مَعْنَاهُ قَوْله: (دَعوه) اي: اتركوه، وَهُوَ أَمر بِصِيغَة الْجمع من: يدع، تَقول: دع دَعَا دعوا بِضَم الْعين، وَالْعرب أماتت ماضيه إلَاّ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَة شَاذَّة فِي قَوْله تَعَالَى {مَا وَدعك رَبك} (الضُّحَى: ٣) بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا تزرموه وَدعوهُ) ، وَهُوَ بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء الْمُهْملَة، يَعْنِي: لَا تقطعوا عَلَيْهِ بَوْله. يُقَال: أزرم الدمع وَالدَّم: انقطعا، وأزرمته أَنا؛ وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْأَعرَابِي، وَعَن عبد الله بن نَافِع الْمدنِي أَن هَذَا الْأَعرَابِي كَانَ: الْأَقْرَع بن حَابِس، حَكَاهُ أَبُو بكر التاريخي. وَأخرج أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحَابَة من طَرِيق مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ: اطلع ذُو الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ، وَكَانَ رجلا جَافيا، فَذكر الحَدِيث تَاما بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة، وَلكنه مُرْسل، وَفِي إِسْنَاده أَيْضا مُبْهَم، وَلَكِن فهم مِنْهُ أَن الْأَعرَابِي الْمَذْكُور هُوَ: ذُو الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ، وَلَا يبعد ذَلِك مِنْهُ بجلافته وَقلة أدبه. قَوْله: (حَتَّى إِذا فرغ من كَلَام أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) اي: حَتَّى إِذا فرغ من بَوْله، وَكلمَة: حَتَّى، للغاية، وَالْمعْنَى: فَتَرَكُوهُ إِلَى أَن فرغ من بَوْله. قَوْله: (دُعَاء بِمَاء) أَي: دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: طلب مَاء. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ، الْآتِيَة عَن قريب: (فَلَمَّا قضى بَوْله أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذنوب من مَاء فهريق عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأمر رجلا من الْقَوْم فجَاء بِدَلْو فسنه عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (فَلَمَّا فرغ دَعَا بِدَلْو فصب عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (دَعَا بِدَلْو مَاء فصب عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (ثمَّ أَمر بسجل من مَاء فأفرغ على بَوْله) . وَفِي رِوَايَة ابْن صاعد، عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَن أنس، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أحفروا مَكَانَهُ ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذنوبا من مَاء) . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد عَن عبد الله بن معقل بن مقرن: (خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فالقوه وأهريقوا على مَكَانَهُ مَاء) .
بَيَان استنباط الاحكام من هَذَا الحَدِيث، من جَمِيع أَلْفَاظه وَالرِّوَايَات الْمُخْتَلفَة فِيهِ، وَهُوَ على وُجُوه. الأول: استنبط الشَّافِعِي مِنْهُ على أَن الأَرْض إِذا أصابتها نَجَاسَة وصب عَلَيْهَا المَاء تطهر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَا يشْتَرط حفرهَا. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا أَصَابَت الأَرْض نَجَاسَة فصب عَلَيْهَا من المَاء مَا يغمرها، وتستهلك فِيهَا النَّجَاسَة طهرت بعد نضوب المَاء وَقَبله، فِيهِ وَجْهَان: إِن قُلْنَا: إِن الغسالة طَاهِرَة وَالْعصر لَا يجب فَنعم، وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا نَجِسَة وَالْعصر وَاجِب فَلَا، وعَلى هَذَا فَلَا يتَوَقَّف
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute