للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله: {خَذُولًا} هَذِهِ إمَّا أن تكون صفةً مشبَّهةً، وإما أن تكون صيغةَ مبالغةٍ، وعلى الأمرينِ يَكُون وصفُ الشيطانِ بالنسبةِ للإنْسَانِ الخِذلان، أو يَكُون خذلان الشيطان للإنْسَانِ دائمًا؛ لِأَنَّ المبالَغةَ تَقتضي الكثرةَ، والخِذلان معناه إذلال الإنْسَانِ في مَوْطِنٍ يَحتاج معَه إلى النصرِ، فهذا الخذلان أنك تتخلَّى عن إنْسَانٍ في موطِنٍ يحتاج فيه إلى النصرِ، والشيطانُ عندما نتأمَّل ما ذكر اللَّهُ عنه في القُرْآنِ نجِد أَنَّهُ يخذُل الإنْسَانَ في مواطن النصرِ، فزَيَّنَ لِقُرَيْشٍ أنْ يَخرجوا لقتالِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فخرجوا {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: ٤٨]، زيَّن للإنْسَان الكفر، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: ١٦]، هَذَا في الدُّنيا، وفي الآخرة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} بمُغيثِكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إِبْراهِيم: ٢٢]، هَذَا أيضًا خِذلان عظيمٌ، فالشيطان في مواطِنِ النصرِ يخذُل الإنْسَانَ ويتبرَّأ منه.

وهذا الوصف {وَكَانَ الشَّيْطَانُ} نقول: هل كان في عِلم اللَّه، أو كان فيما مَضَى وانتهى؟ تقدَّم قريبًا نظيرها (كان) مجرَّدة عن الزمن، يعني أن (كان) تارَةً يُراد بها الدلالة على الزمنِ، وتارةً يُراد بها مجرَّد الحَدَث، يعني مجردة عن الزمنِ، فتقول مثلًا: (كان زيدٌ قائمًا) يعني فيما مضَى، ثم جلس، وأيضًا مثل قولِه عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: ٩٦]، وقولِه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: ٢٧]، ليس المعنى (كان) فيما مضَى، بل المعنى أنَّ هَذَا وصفٌ للَّهِ مستمِرٌّ.

<<  <   >  >>